من الفكر السياسي عند الإمام علي (عليه السلام): وجوب الإمامة

مقالات وبحوث

من الفكر السياسي عند الإمام علي (عليه السلام): وجوب الإمامة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-01-2021

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
بطبيعة الحال لا نتوقع الحصول على تعريف فلسفي محدد في الإمامة ووجوبها، فيما أثر عن علي بن أبي طالب عليه السلام من أقوال في (نهج البلاغة) ولكن ذلك لا يعني سكوته عن الموضوع بصفته قطب رحى المعارضة التي استدارت حولها نظرية الإمامة. فعلي عليه السلام في هذا المجال لم يكن منظراً، بل كان مطبقاً لنظرية متكاملة الجوانب فإذا «كان علاج أبي بكر وعمر (لقضية الإمامة) علاجاً مؤقتاً، لدرء فتنة متوقعة، دون وضع أسس كاملة لنظام الحكم»[1] فقد حاول علي عليه السلام ـ كما يبدو من (نهج البلاغة) ـ أثناء خلافته القصيرة المليئة بالأحداث والفتن، ان يضع تلك الأسس على ضوء القرآن والسنة، كما أفهمها له الرسول صلى الله عليه وآله[2].
فالإمامة في فكر علي عليه السلام واجبة وضرورية، ولا يمكن على الإطلاق ان يسود النظام بدونها وينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة، وفي هذا المجال يقول لما سمع قول الخوارج «لا حكم الا لله»: «كلمة حق يراد بها باطل، نعم انه لا حكم الا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر»[3]، فنص علي عليه السلام السابق يرتكز على ثلاث نقاط:

ـ الأولى: الالتباس في فكر الخوارج بين الأحكام التشريعية والإمارة بمعناها القيادي، المناط بها تطبيق شريعة السماء.
ـ الثانية: وجوب الإمارة مطلقة.
ـ الثالث: الغاية المطلقة من الإمارة.
1ـ الالتباس في فكر الخوارج بين الأحكام الشرعية وبين الإمارة: إذ يفهم من قول علي عليه السلام إن الخوارج قد خلطوا بين التشريع وبين نفي الإمارة، بعدم قبولهم التحكيم، لعدم وجود نص يدعم أو ينفي ذلك القبول، إذ يفهم من قولهم (لا حكم الا لله) «بأنه لا حكم كلي ولا جزئي لمجتهد أو أمير أو أي إنسان كائناً من كان إلا في الأشياء المنصوص عليه كتاباً وسنة، ما غير المنصوص عليها فيترك امرها إلى الله»[4] ولكن المنطق والعقل يأبيان ذلك لأن «أكثر الأحكام الفرعية غير المنصوص عليها مع انها أحكام الله، بل تكون منتزعة بحسب الاجتهاد وساير طرقها لمن كان أهلاً لذلك»[5]. فقولهم بأن (لا حكم الا لله) قد نفوا الإمرة لغير الله مع أن الاستنباط العقلي يقول بضرورة الحاكم الذي تستقيم به مصالح الناس واحوال الرعية.
2ـ وجوب الإمارة مطلقة: فعلي عليه السلام قد قال بوجوب (الإمارة) أو السلطة أو الإمامة كرادع، يقيم أود المجتمع، إلا أنه قد قال بإطلاقها، فهو لا يريد من القول إمارة معينة في وقت معين، ذات طبيعة خاصة، فقوله «لابد للناس» تعني أي ناس يتفقون فيما بينهم لتأمير أحدهم عليهم ليصون مصالحهم، لذلك جاء في السياق «بر أو فاجر». وهنا يجدر الأخذ بعين الاعتبار ان علياً عليه السلام قد جعل الإرادة الحرة المتمثلة في العقل هي الأساس في وجوب الإمارة باعتبارها وليدة التفكير الجماعي، أما عدم ربطه إياها بالدين كما يتبين من النص فلأنه قد نظر إليها من حيث الاطلاق كإمارة، وليست إمامة محاطة بسياج من التشريع الإسلامي، فليس مجال النص ما طرحه ابن أبي الحديد أو الخوئي من كون مناقشة الإمامة كمنصب ديني[6]، فهو يعني ـ كما يبدو من النص ـ الإمارة بمعناها المطلق في مجالها التاريخي العام دون تحديدها أو ربطها بتشريع إلهي.
ثم إن الدليل العقلي على وجوب الإمامة في فكر علي عليه السلام يمكن استنتاجه من كلام قاله لرسول قوم ارادوا منه استطلاع «حقيقة حاله من أصحاب الجمل، لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له عليه السلام من إمرة معهم ما علم انه على حق، ثم قال له: بايع، فقال: إني رسول قوم، ولا أحدث حدثاً حتى ارجع إليهم، فقال عليه السلام: أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم متساقط الغيث، فرجعت إليهم واخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجاذب، ما كنت صانعاً؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء فقال عليه السلام فامدد اذاً يدك، فقال الرجل: فو الله ما استطعت ان أمتنع عند قيام الحجة علي فبايعته»[7]. فقد طلب علي عليه السلام بيعة الرجل من وجهة عقلية مبنية على الإرادة التامة في حرية الاختيار، بعد أن أوضح له الطريق، فاستجابة الرجل هنا لم تكن مبنية على نصوص تشريعية بقدر ما هي مبنية على اقتناع داخلي بأن موقف علي عليه السلام هو الحق، وذلك من خلال توظيف علي عليه السلام للصورة العقلية، ولو أن الرجل رفض بيعته فباختياره المحض أيضاً، لأن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال تعرف بالحق، لذلك فقد قال علي عليه السلام للحارث بن حوط[8] حين سأله عن أصحاب الجمل، أكانوا على حق أم كانوا على ضلال، قال: «يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق، فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه»[9] أي انك «نظرت إلى طلحة والزبير من خلال صحبتهما لرسول الله صلى الله عليه وآله وإلى عائشة من خلال حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله»[10]، والحق لا يمكن إدراكه بالوجاهة والمركز وإنما من خلال أعمال العقل بالتأمل في مجريات الأمور تأملاً متروياً وعميقاً، وعليه فإن الاخذ بما حدث في السقيفة بأنه تشريع أو نص قانوني، لأن بعضاً من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله قد أقروا به، لا يمكن قبوله من وجهة نظر علي عليه السلام.
3ـ إما من حيث الغاية من الإمارة: فقد قصرها علي عليه السلام على الشؤون الدنيوية العامة لكونه يتحدث عن ضرورة السلطة لحفظ نظام لاستتباب امن المجتمع سواء أكان اسلاميا أو غير اسلامي، لذلك لا يمكننا استكمال صورة الإمامة ووجوبها من الناحية الشرعية في فكر عليه السلام الا بالتعرض إلى الشروط التي يجب توفرها من وجهة نظر الفرق الإسلامية ومن ثم مقارنتها بما رود عند الإمام علي عليه السلام في ذات الموضوع.
4ـ شروط استحقاق الإمامة من وجهة نظر الفرق الإسلامية: تكاد الفرق الإسلامية كلها تتفق على شروط معينة من الواجب توفرها، فيمن يستحق الإمامة العظمى ويحصرها فريق في أربعة، بينما يرى الماوردي حصرها في سبعة شروط هي:
1ـ العدالة على شروطها الجامعة.
2ـ العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل.
3ـ سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.
4ـ سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض.
5ـ الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
6ـ الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
7ـ النسب، وهو أن يكون من قريش، لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه»[11].
«وزادت الشيعة في هذا الشروط العصمة من الذنوب»[12]. ويكاد شرط العصمة يكون هو الأساس في استحقاق الإمامة عندهم، وهم لا يقصدون بالعصمة الاضطرار إلى الطاعات والامتناع عن المعاصي لا إراديا، وإنما العصمة عندهم قوة إرادية يزود الله سبحانه بها المعصوم لاختيار الفضائل وتجنب المعاصي بكابح داخلي ذاتي، مع الاقتدار على فعل المعاصي بالاختيار الحر الخالي من كل إلجاء، فالعصمة في اعتقاد الشيعة «هي اللطف الذي يفعله الله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح»[13]. وعلى اعتبار ان العصمة من خصوصيات الإمام عند الشيعة دون سائر البشر، فانهم لا يقصدون بشرطية العلم والعدالة وغيرهما من الشروط على المحمول اللفظي لتلك المعاني، لأنهم يوجبون في الإمام «ان يكون أفضل زمانه دينا وورعاً وعلما وسياسة»[14]فأفعل التفضيل «أفضل» هنا يقصد به، ان العلم والعدالة والاجتهاد وحدها لا تكفي، لأن الجدارة والاستحقاق للأفضل والأقوى.
فشروط الفريقين في استحقاق الإمامة، وإن بدت متفقة في الظاهر فيما عدا العصمة ـ الا انها بأفعل التفضيل الذي جعله الشيعة الشرط الرئيس للاستحقاق قد باعد بين الرأيين[15].

 الهوامش:
[1] محمد محمود صبحي ـ نظرية الإمامة ص 26.
[2] أرجع قول علي عليه السلام عن نفسه في هذا الشأن، الخطبة رقم240.
[3] خطب 40.
[4] مغنية ـ في ظلال نهج البلاغة 1/753.
[5] ميثم البحراني ـ شرح نهج البلاغة 2/102.
[6] راجع ابن أبي الحديد 2/308، الخوئي ـ منهاج البارعة 4/178.
[7] خطب ـ 171.
[8] الحارث بن حوط، بالحاء المهملة. ويقال: إن الموجود في خط الرضي «ابن خوط» بالخاء المعجمة المضمومة ـ ابن أبي الحديد 19/ 148 ـ يبدو أنه من أصحاب الإمام علي عليه السلام، لم أعثر له على ترجمة.
[9] حكم ـ 270.
[10] مغنية ـ في ظلال النهج 4/376.
[11] الماوردي: الأحكام السلطانية ص6، واتفق عبد القاهر البغدادي في أصول الدين ص 277 وابن خلدون في المقدمة ص241 على ان الشروط التي يجب توفرها في مستحق الإمامة أربعة هي «العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس، واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشي» بينما ذكر القلقشندي في مآثر الأنافة 1/31، 39، أربعة عشر شرطاً هي «الذكور، البلوغ، العقل، البصر، السمع، النطق، سلامة الأعضاء، الحرية، الإسلام، العدالة، النجدة، العلم المؤدي إلى الاجتهاد، صحة الرأي، التدين، سلامة النسب» وأخذنا بقول الماوردي في المتن لأنه الأخصر والأشمل.
[12] أصول الدين ص 277.
[13] الشريف المرتضى: أمالي المرتضى 2/377.
[14] الحلي: الألفين 41.
[15] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص166 – 172.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2678 Seconds