بقلم: الدكتور خليل خلف بشير
((الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد:
يعد أمير المؤمنين (عليه السلام) سبّاقاً في كثير من العلوم كالنحو، وعلوم القرآن - ومنه التفسير -، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، وأسرار الكون، وغيرها فقد فهم الدارسون من مقولة الإمام (الإنسان يشارك السبع الشداد)[1] أنّ الإنسان سيتمكن من ارتقاء السماء، والتعرف على أسرار القمر والمريخ والزهرة وزحل والكواكب الأخرى فيكون الإمام قد سبق العلماء في ما توصلوا إليه حديثاً، وكذا في قوله (في التجارب علم مستفاد)[2]،وقوله (ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة)[3] فقد سبق الإمام بيكون في اكتشاف الطريقة التجريبية في العلوم الطبيعية لقد كان علي (عليه السلام) رجل علم قبل أن يكون رجل دين، وقد أحبّ العلم، فكان وعاءً لعلوم شتى، ولو بثّ علومه كلها لتحولت الدنيا إلى غيرها، وتغير وجه الحياة، وازدهرت بالبركات والخيرات، وتحولت الأرض إلى بساط أخضر وربيع مقرّ ولكان لإسلام دين الأرض وسيّد الدنيا، وارتقت البشرية إلى مرحلة فكرية فلا ظلم ولا تخلف ولا فساد ولأكلنا من ثمرات الأرض، ولو جمعنا ما روي عنه لأدركنا أنه رجل علم ومدرسة علمية لكنه عاش في مجتمع لم يعرف للعلم ثمناً، ولا للعلماء وزناً [4] فهو القائل : ((بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ))[5]، فهذا العلم الجم الذي لم يجد من يعينه، والعلم المكنون الذي إباحته تقتضي اضطراب سامعيه، ليس علما قد اكتسبه بقراءة ودراسة ومباحثة وتكرار، بل هو علم لدني قذف الله تعالى نوره في قلبه من مشكاة تقواه، وألهمه إياه لما تحلى زهده في متاع دنياه [6]،فهو القائل : ((عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب والأسباب وفصل الخطاب ومولد الإسلام موارد الكفر وأنا صاحب الميسم وأنا الفاروق الأكبر ...)) [7]،وكذا القائل : ((والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلى الله عليه وآله))[8] فلم يستفيدوا من علمه فهو حينما كان يقول (سلوني قبل أن تفقدوني) فكان سعد بن أبي وقاص يسأله : كم شعرة في رأسي ولحيتي؟ استهزاءً بما طرحه الإمام فيجيبه الإمام عن مغيّب: (إنّ في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله) إشارة إلى أن له صبياً سيكبر ويقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وهو عمر بن سعد[9].
لذا يصح القول : إنه من العلماء المظلومين في الحياة؛ لأنه لم يُسمع له، ولم يؤخذ منه كما أراد ورغب؛ ولأنه العالم وليس كالعلماء[10] فهو القادر على القضاء والحكم لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم لقوله : ((... أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم، حتى ينطق كل كتاب من كتب الله فيقول : « صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل الله في « وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم : ما أنزل الله فيه، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم : بما كان، وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآيـــة : {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[11]. ثم قال : سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لو سألتموني عن : أية آية في ليل نزلت أم في نهار نزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأنبأتكم ...))[12].
فلو ثنيت الوسادة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتسلم قيادة الحكم لتطورت الحياة الإسلامية، وسادت القيم الأصيلة والمثل العليا فقد كان الإمام يملك طاقات هائلة من العلم لا يملكها غيره فثرواته العلمية شملت جميع ما يقع في الدنيا من أحداث في ما هو كائن وما يكون حتى يرث الأرض ومن عليها لكن من المؤسف أنّ الأمة لم تستغل هذا الجهبذ العظيم، ولم تحتضنه ليفيض عليها بعلومه ومعارفه وثقافته فقد باعدوا بينه وبين الحياة السياسية العامة في البلاد محتجين بحجة تنمُّ عن حقدهم الدفين وهي أن الخلافة والنبوة لا تجتمع في بيت واحد[13]متناسين أنه الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة إلا وأجاب عنها، بل هو الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة، وهو المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في جميع أمورهم [14] فقد سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم العربية المعروف، وصاحب أول معجم عربي هو العين، ومخترع علم العروض عن الدليل على إمامة علي (عليه السلام)، على نحو الكل في الكل، قال: احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل[15].
لقد رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن علمه ليس له فهو ليس مثل بقية الذين يحملون العلم من أجل أن يجمدوه في ذواتهم أو ليحصلوا على امتيازات خاصة فقد كان يشعر أن علمه ليس ملكاً له؛ لأنه ملك الله، والله يريد منه أن ينفقه على خلقه لذا كان يطلب من الناس، وهو مسجى على فراش الموت أن يسألوه فلا يترك فرصة يشعر فيها أن الناس بحاجة إليه إلا وبادر إليها من أجل إزالة شبهة عنهم أو فتح باب لهم للحق أو تخطيط لهم على طريق الهدى أو إنقاذهم من طريق الضلال[16].
وقد شهد بفضله القاصي والداني ويكفينا شهادة الدكتور محمد حسين الذهبي الذي قال عنه إنه ((كان رضي الله عنه بحرا في العلم، وكان قوى الحجة سليم الاستنباط، أوتى الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان ذا عقل قضائي ناضج، وبصيرة نافذة إلى بواطن الأمور، وكثيرا ما يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفى واستجلاء ما أشكل، وقد ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن ودعا له بقوله: (اللهم ثبت لسانه واهد قلبه)[17] فكان موفقا ومسددا فيصلا في المعضلات حتى ضرب به المثل فقيل : (قضية ولا أبا حسن لها) [18]. والأعجب، فقد تربى في بيت النبوة، وتغذى بلبان معارفها وعمته مشكاة أنوارها))[19].[20].
الهوامش:
[1]- وردت هذه المقولة في شرح رسالة الحقوق /حسن السيد علي القبانچي 84 مقرونة بمقولة غيره (الإنسان مركز الكون).
[2]- المقولة لأمير المؤمنين وردت في ميزان الحكمة / محمد الريشهري 1/376، وهناك مقولة أخرى له أوردها في الموضع نفسه هي (الأمور بالتجربة، والأعمال بالخبرة).
[3]- من وصاياه لكميل بن زياد ينظر : تحف العقول / ابن شعبة الحراني 171.
[4]- ينظر: الإمام علي القرآن الناطق/ نعمة هادي الساعدي 247.
[5]- نهج البلاغة، الخطبة 5،ص32. واندمجت : انطويت . والطوى : البئر المطوية بالحجارة (ينظر : شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1/213. والأرشية الحبال، وأحدها رشاء (ينظر : كشف الغمة / ابن أبي الفتح الأربلي 1/75).
[6]- ينظر : مطالب السؤول في مناقب آل الرسول / محمد بن طلحة الشافعي 82.
[7]- بصائر الدرجات / محمد بن الحسن الصفار 222.
[8]- نهج البلاغة، الخطبة 175،ص 289.
[9]- ينظر : بحار الأنوار/ المجلسي 40/192،والإمام علي بن أبي طالب هو الإمام حقاً / مهدي الشيخ صالح الأسدي 460-461.
[10]- ينظر : الإمام علي القرآن الناطق/ نعمة هادي الساعدي 247.
[11]- الآية 39 من سورة الرعد.
[12]- الاحتجاج / الطبرسي 1/385.
[13]- موسوعة الإمام أمير المؤمنين / باقر شريف القرشي 3/8-9.
[14]- ينظر : في رحاب أهل البيت / السيد محمد حسين فضل الله 1/161.
[15]- ينظر : معجم رجال الحديث / السيد الخوئي 8/81.
[16]- ينظر : في رحاب أهل البيت 1/162.
[17]- ورد في أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين 1/287 (عن علي (عليه السلام): بعثني النبي (ص)إلى اليمن فقلت يا رسول الله تبعثني إلى قوم وأنا حديث السن لا أبصر القضاء فوضع يده على صدري وقال اللهم ثبت لسانه واهد قلبه).
[18]- مقولة لعمر بن الخطاب فضلاً عن قوله (لولا علي لهلك عمر) (ينظر : الرسالة السعدية / العلامة الحلي 25).
[19]- التفسير والمفسرون / الذهبي 1/89.
[20]لمزيد من الاطلاع ينظر: من النتاج الفكري لأمير المؤمنين عليه السلام تفسيره المغيب للقرآن الكريم وادعيته العلوية للدكتور خليل خلف بشير، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 16 –20.