بقلم: الشيخ مهدي المالكي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
يقول الإمام علي (عليه السلام):
«لا همّة لمَهين»[1]
فـ (المَهين) هو الوصف الذي يُطلقه الإمام علي (عليه السلام) على أصحاب الدنيا، وعلي (عليه السلام) عندما ينفي جنس الهمّة بـ (لا) النافية للجنس فإنّه يؤكّد على حقيقة مهمة وهي: أنّ (المَهين) لا يمتلك حتى أضعف مراتب (الهمّة) لإنّ نفي جنسها يستلزم نفيها بجميع مراتبها ودرجاتها ومستوياتها، فما هي صفة هذا (المَهين)؟
(المَهين): هو من هانت عليه نفسه.
ولا تهون النفس على صاحبها إلّا إذا كان هذا الصاحب جاهلاّ بقدراتها وإمكاناتها ومواهبها الإلهية العظيمة، جاهلاً بقيمتها وقدرها عند بارئها الذي فضّلها وميّزها على باقي مخلوقاته، وذلك بسبب انقيادها وانجذابها واتجّاهها إلى ما يلبي مطالبها ويُشبع رغباتها اللامتناهية، حتى لو كانت هذه المطالب والرغبات غير مشروعة ومخالفةٍ لقيم السماء والأرض، وكانت مطالباً ورغباتٍ وهمية وزائلة ولا قيمة واقعية لها.
فالمَهين هو ذليل النفس ذو صورةٍ ذاتيةٍ سلبيةٍ، وصاحب أدنى درجات التقدير الذاتي. ولإنّ الأشياء تُعرف بأضدادها فإنّ أوضح وصف يُمكن اعطاءه للمَهين يتبين بعد معرفة ضدّه وهو (كريم النفس)، الذي يصفه الإمام علي (عليه السلام) بأوصاف واضحة جلية يمكن بمعرفتها معرفة ضدّه (مَهين النفس بنفس درجة الوضوح والجلاء، وهذه الأوصاف هي:
«من كَرُمت عليه نفسه لم يهنها بالمعصية»[2].
«من كَرُمت عليه نفسه هانت عليه شهواته»[3].
«من كَرُمت نفسه صغُرت الدنيا في عينيه»[4].
ولأهمية هذه الصفة ودورها الكبير والمحوري في رفع مستوى تقدير الذات ركّزت عليها شرائع السماء وأولتها اهتماماً واسعاً وخاصّاً، وبالخصوص خاتمة هذه الشرائع وأكملها التي أكّدت على مسألة( الكرامة الإنسانية ) و ( عزّة النفس ). هذا الاهتمام الواسع والمركّز انعكس حتى على التشريعات والأحكام التي أولتها عناية فائقة؛ فكانت هناك أحكام خاصّة في موارد كثيرة الهدف منها صيانة كرامة الإنسان والحفاظ على عزّة نفسه وصورته الذاتية وتقديره لها، وضمان عدم وقوعه في الذلة والمهانة ونقص تقدير الذات، أو استلزم الحكم الشرعي ايقاعه في ذلك، فحرّمت على الفرد المسلم تعريض نفسه للذلة والمهانة بعد أن كرّمه الله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.....}[5].
فالله تعالى جعل العزة والكرامة والشرف جزءاً من الخلقة الإنسانية، وهذا يقتضي من الإنسان الحفاظ على هذه النعمة الإلهية الكبرى، وأن لا يُقهر ويُغلب أمام شهوات نفسه ودوافعه الوهمية، بل عليه أن يكون هو القاهر لها والمسيّر لها بالوجهة التي يحكمها العقل والتوجّه نحوها. وقد بيّن الشارع المقدس كيفياتها في تشريعاته للأحكام والسنن والآداب.
فالإنسان صاحب العزة والكرامة، وصاحب التقدير العالي لذاته يكون أقرب إلى ربّه وإلى نفسه من غيره، لأنّ شعوره هذا يدعوه للالتفات والتوجّه الدائم إلى ذاته وحقيقته الإنسانية. ومن كان كذلك يكون قد وضع أقدامه الفكرية والمعرفية على الخطوة الأولى من سُلّم التكامل النفسي والعقلي، الذي ينتهي بدرجاتٍ عاليةٍ من معرفة النفس ومعرفة الله تعالى، ومستوياتٍ عاليةٍ من تقدير الذات([6]).
الهوامش:
[1] بحار الأنوار: 78/ 10/ 67.
[2] الغرر والدرر / 8730.
[3] الغرر والدرر / 8771.
[4] المصدر السابق.
[5] سورة الإسراء: الآية 70.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: سيكولوجية الصورة الذاتية، للشيخ مهدي المالكي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 105-107.