رابعاً: حصار الثوار لبيت عثمان وموقف الإمام علي (عليه السلام) من الحدث.
بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
ان التصلب من ناحية عثمان كان يقابله اللين والرفض من جانب علي (عليه السلام) الذي لم يمتنع من الوقوف بجانب الحاكم أثناء محنته العصيبة حين حصره الثوار، فقد تحمل السفارة بينه وبينهم، ينقل مطالبهم والتفاوض عنهم في محاولة منه لمنع انتشار الفتنة، من ذلك قوله لعثمان «ان الناس ورائي، وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما ادري ما اقول لك، ما اعرف شيئاً تجهله، ولا ادلك على أمر لا تعرفه... فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء، بعد جلال السن وتقضي العمر... (فقال عثمان مستجيباً لسفارته كلم الناس ان يؤجلوني حتى اخرج إليهم في مطالبهم»[1]، الإ أن البطانة التي التفت حول عثمان قد حالت بينه وبين الاستماع إلى شكاوى الناس وتظلماتهم، بل تمادت بعض الايدي الخفية ـ في دسها على الحاكم ـ ان تزور كتاباً إلى عامله على مصر ينقض كتاب الحاكم في عزل ذلك الوالي استجابة لأهالي مصر، ودبرت من المكر ما يمكن معه ان يقع الكتاب في ايدي أولئك الثوار القافلين إلى ديارهم بعد ان حصلوا على مطالبهم، وذلك بقصد ارباك الحاكم والايقاع به لتشتيت أمر المسلمين وتفتيت وحدتهم حتى يفلت زمام السلطة من ايديهم، مع ان الضامن لما في كتاب عثمان الأصلي من شروط هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بشهادة بعض الصحابة، فلما واجه علي (عليه السلام) عثمان بالكتاب المزور عليه والمختوم انكر ان يكون قد كتبه، وقد صدقه علي (عليه السلام) ومن معه وعرفوا من الخط ان كاتبه مروان هو الذي زوره على الحاكم، فطالبوا عثمان بتسليمه إليهم لاستجوابه، وكان عنده في الدار، ولكن عثمان أبى عليهم ذلك وأصر على عدم تسليمه إليهم، فغضب علي (عليه السلام) ومن معه من الصحابة[2] فتركوه وشأنه مع الثوار فشددوا حصارهم على داره، وبعض افراد قريش يساعدونهم في الخفاء على ذلك[3]، الا ان غضب علي (عليه السلام) وسخطه من تصرف عثمان بشأن مروان لم يمنعه من تقديم النصح إليه، فقد كان عثمان يظن وهو محصور ان من الأسباب التي البت الناس عليه وجود علي (عليه السلام) تحت اعينهم بالمدينة، خاصة وان كثيراً من الثوار المحاصرين لدار الحاكم قد كانوا يهتفون باسم علي (عليه السلام)، للخلافة[4]، مما ادى بعثمان إلى الحيرة بتصرفه إزاء علي (عليه السلام)، فتارة يطلب منه مبارحة المدينة وتارة أخرى يدعوه للقدوم حين تدعو الحاجة لطلب المعونة في الذب عنه، حتى ان علياً (عليه السلام) قد ضاق ذرعاً من تصرفات عثمان تلك، فقال لعبد الله بن عباس متبرما لما قدم إليه بأمر عثمان بمبارحة المدينة «ما يريد عثمان الا ان يجعلني جملا ناضجاً بالغرب، اقبل وادبر، بعث الي ان اخرج، ثم بعث الي ان اقدم، ثم هو الان يبعث الي ان اخرج، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون اثماً»[5]، لقد حاول علي (عليه السلام) جاهداً ان يدفع عثمان ولكن تيار العنف كان اقوى من ان يصد.
فنقد علي (عليه السلام) لعثمان ولسياسته، وارتياب عثمان في نوايا علي (عليه السلام) الصادقة تجاهه لم يمنع علياً (عليه السلام) من الدفاع عن عثمان، ولكن السياسة الملتوية ابت الا ان تلصق دم عثمان بعلي (عليه السلام) وذلك بعد البيعة له بالخلافة مباشرة، لأن مصلحة من اذكوا نار الفتنة من بني أمية وغيرهم من القريشيين تقتضي ذلك، فمما يؤثر عن مروان بن الحكم قوله «ما كان في القوم احد ادفع عن صاحبنا من صاحبكم ـ يعني علياً (عليه السلام) عن عثمان ـ قال: فقلت له: فمالكم تسبونه على المنابر؟ قال: لا يستقيم الأمر إلا بذلك»[6]. فمناهضة علي (عليه السلام) ورفض نقده ومحاولة اخماد صوته أثناء حكومة عثمان كان الهدف منه ـ على ما نعتقد ـ محاولة اقصائه عن الحياة السياسية، وعدم تمكينه من الخلافة، ولكن الظروف السياسية أبت إلا أن يكون رجل الساعة المنقذ بالنسبة للفئات المغلوبة على أمرها من عامة المسلمين مما يتعارض مع ما كانت الارستقراطية القرشية تبتغيه، وذلك بزعامة بني أمية عشيرة عثمان، فعملت جاهدة على إفشال مخطط علي (عليه السلام) السياسي بتوجيه الاتهامات الباطلة إليه، وهذا ما يمكن تتبعه من دراستنا لفكر علي (عليه السلام) السياسي في تعامله مع المناهضين لحكومته والناقمين على سياسته[7].
الهوامش:
[1] خطب ـ 165، وجاء مثله في تاريخ الطبري 4/ 337، العقد الفريد 4/308.
[2] توسط علي (عليه السلام) بين عثمان وبين الثوار من اهالي مصر وذلك بطلب من عثمان نفسه على ان ياخذ علي (عليه السلام) منه عهداً غليظا وميثاقا مؤكداً بأن يستجيب لكل طلب عادل ومعقول يطلبونه وبالفعل فقد افلحت وساطة علي (عليه السلام) وتولد عنها كتاب فحواه «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله عثمان بن عفان لجميع من نقم عليه من أهل البصرة والكوفة واهل مصر، ان لكم علي ان اعمل فيكم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) وان المحروم يعطى والخائف يؤمن والمنفي يرد، وان المال يرد على أهل الحقوق وان يعزل عبد الله بن سعد بن أبي السرح عن أهل مصر ويولى عليهم من يرضون، قال أهل مصر: نريد أن تولي علينا محمد بن أبي بكر، فقال عثمان: لكم ذلك، ثم أثبتوا في الكتاب «وأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ضمن بالوفاء لهم بما في هذا الكتاب، شهد على ذلك الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح 2/410. أما عن طلب عثمان وساطة علي (عليه السلام) بينه وبين الثوار، وكيف استطاع مروان بن الحكم أن يثني عثمان عما وعد الناس به من وعود فراجع تاريخ الطبري 4/358 وما بعدها وراجع أيضاً تاريخ الطبري 4/180 حول طلب عثمان من علي (عليه السلام) مساعدته في رد الناس عنه بعد أن ضيقوا عليه الحصار، ثم عدوله عما اشترطه على نفسه بعد أن فك الثوار الحصار عن داره.
[3] راجع موقف طلحة بن عبيد الله من عثمان وهو محصور وما أمر به الثوار ـ الكامل في التاريخ 3/87.
[4] راجع مقدمة الخطبة ـ 165.
[5] خطب ـ 215. وورد مثل ذلك القول عند ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/310بزيادة منها «فخرج علي (عليه السلام) إلى ينبع فكتب إليه عثمان حين اشتد الأمر: اما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، وطمع في من كان يضعف عن نفسه» (طويل والبيت لامرئ القيس):
فإنك لم يفخر عليك كفاخر ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
فأقبل الي على أي أمر احببت، وكن لي أم علي، صديقاً كنت أم عدواً (طويل ـ والبيت للمزق العبدي):
فإن كانت مأكولاً فكن خيراً كل وإلا فادركني ولما أمزق
[6] ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 3/99.
[7] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 234 – 237.