من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة قال عليه السلام:((وَلاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ...))

مقالات وبحوث

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة قال عليه السلام:((وَلاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ...))

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 23-07-2023

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وازل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:
اللَّغِب شِدَّة الإعياءِ، والضعف والتّعب[1]. ولَغبت الدَّابّة، إذا أَعْيَتْ وتَعِبَتْ[2]. واستعمل الإمام لفظة (اللاغِب) بصيغة اسم الفاعل مرة واحدة [3]، للدلالة على التَّعِبْ من الإبل. وذلك في قوله (عليه السلام) الذي يُرْشِد فيه عامله على الصدقات أمْ يُرِيح الدّواب في أثناء سَيْره، وهو يَحْدُربها إلى الإمام: ((...وَلاَ يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً، وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذلِكَ وَبَيْنَهَا، وَلْيُرَفِّهْ عَلَى اللاَّغِبِ...))[4]. أمره بأنْ لا يجهد الدواب في الركوب، ولا يختصها بالرّكوب في سيرِه حتّى لا يصِبها التَّعَب. وإنما يجعل الركوب بينها منأوبة بالقسط والعدل[5]. وأمر أنْ يُرَفَّه عن (اللاّغِب) من الدواب. والتّرفيه والرَّفَاهَة في اللغة رَغَد الخِصب، ولِيْن العَيْشِ[6]. أراد (عليه السلام) أنْ يُرَفّه عن الإبل، والنياق بإراحتها وإيْرَادِها الماء كُلما احتاجت إليه. حتى لا يُصِيْبَها الإعْيَاء وشِدَّة التَّعْب من السَّيْر. وثقل أحمالها. ويلحظ في النّص علاقة بين مفردة (لِيُرَفِّه) وبين لفظة (اللاَّغِب). فإنّ (يُرَفِّه) تدل على أَقْصَر الورودِ وأَسْرَعِه بالنسبة للإبل. وذلك بأنْ تشرب الإبل الماء كلما أرادت[7]. وهذا هو منتهى الرَّفه اليها؛ لأنّ ذلك يكون مصحوباً بالإراحة، والتوقف في مَواضع الماء. وبهذا تكون الدواب اللاّغِبة مُهَيّأةً لأنْ تُراح، وتتخلص من الإعياء والضَّعْف الذي يصيبها من المَسِيرِ. ومراعاة لهذا المعنى، أشار الإمام بالتَّرفيه على هذا النوع من الدواب المُتْعَبَةِ والمُصَاَبة ِ بِعلَل في أخفافها وأَرْجُلِها، فَأمره (عليه السلام) أنْ ((يُوْرِدْها مَا تَمُرُّ به من الغُدُر))[8]. والغُدُر جمع (غِديْر)، وهي مواضع الماء في البَيْداء. فكأنما هذهِ الغُدُر مواضع استراحة وَوِرْدٍ لهذهِ القوافل السَّيَّارة. وقد التفت بعض شُرَّاح النهج إلى مفردة (اللاّغِب)، من جهة دلالتها على الدّواب، فذكر أن المراد بها الجَمَل، لهذا ذَكَّرَ صِفَتَهُ[9]. وتحتمل المفردة المتقدمة الدلالة على النّاقَةِ أيضاً، وإنما حذفت التاء من الوَصْف؛ لأنّه في معنى النَّسب، كما يقال: ناقة ضَامِر، أي: ذاتُ ضُمَور[10].
وتعليقاً على هذا الوجه أقول: إنّ استعماله (عليه السلام) لمفردة (لاَغِب) بوزن الفاعل يراد به لزوم التّعب والأعياء لهذهِ الدّواب، فإنّها تلزم الدواب ولا تنفك يزول عنها إلا بالراحة والترّفيه، ولهذا أورد الإمام (عليه السلام) هذهِ الصفة بوزن اسم الفاعل -كما يبدو - للدلالة على التعب في هذهِ الدّواب الملازم لها ما دام حاديها مُجْهِداً لها، غير مُرَفّهٍ. وهذا المعنى تقدمه صيغة (فاعل) دون بقية المشتقات كما يذكر الدارسون[11]. وأمّا كون هذا الوصف مجرداً من (التاء) في دلالته على جنس الدّواب التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام)، فمجىء الوصف (لاغب) خالٍ منها؛ فذلك لأنّه أُريد - فيما يبدو - معنى الصِّفَة في اسم الفاعل. وهي صفة اللّغُوب وشِدّةُ التّعب والإعياء. وهذه تُصِيب الدّواب جميعاً سواء أكانت ناقة أم جملاً، ولو قصد (عليه السلام) دلالة الفعْل أو الحَدَث فيها. لقال (لاِغَبةُ)، وهي الناقة التي سَيُصِيبُها اللَّغَب والاعياء. كما يقال ((امرأة حائضَةٌ غداً، ومُرْضِعَةٌ غداً، فلا يَنْزَعَونَ الهاء؛ لأنّه شيء لم يَثْبُت، وإنما الإخبار عنه على لفظ الفعل، وهو قولنا: تَحِيْضُ غداً، وَتُرْضِع غداً))[12]. فضلاً عن ذلك، فدلالة النّسب موجودة في (لاغب)التي استعملها الإمام. وقد أشار النحويون إلى هذهِ الدلالة في اسم الفاعل إذا كان جارياً على الشيءِ وصاحبه. فإنهم يقولون لذي الدِّرع، دَارِعٌ، ولذي السَّيْف سائِفٌ ولذي التُّرس تَارِس[13]. ويقولون: ناقَةٌ ضَامِرَ لوصف المؤنث، وهو في كلامهم صِفَةُ لـ (شيءٍ)، و (الشيءُ) مذكّر فكأنهم قالوا: هذا شيءٌ ضَامِرٌ، ثم وصفوا به المؤنث، كما أنهم يقولون: (دراع). كأنّه قال: دِرْعِي[14]، على جهة النَّسب. والمعنى ذو دِرْع أيضاً[15])[16].

الهوامش:
[1] ينظر: العين (لغب): 4/421، ومقاييس اللغة (لغب): 5/256.
[2] ينظر: لسان العرب (لغب): 1/743.
[3] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 483.
[4] نهج البلاغة: ك/25: 483.
[5] ينظر: الديباج الوضي: 5/2220.
[6] ينظر: المحكم (رفه): 4/305.
[7] نفسه.
[8] نهج البلاغة: ك/25: 483.
[9] ينظر: الديباج الوضي: 5/2220.
[10] ينظر: الديباج الوضي: 5/2220.
[11] ينظر: معاني الأبنية: 47، 48.
[12] ينظر: كتاب سيبويه: 3/384، والمخصص لابن سيده: 16/121، ومعاني الأبنية: 55.
[13] ينظر: المقتضب: 1/120، ومعاني الأبنية: 52.
[14] ينظر: كتاب سيبويه: 3/383، 384.
[15] ينظر: المقتضب: 1/120.
[16] لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 43-46.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2234 Seconds