من ألفاظ البيع والشراء في نهج البلاغة: المَّال

مقالات وبحوث

من ألفاظ البيع والشراء في نهج البلاغة: المَّال

742 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 25-09-2023

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..

اما بعد:
ورد هذا اللفظ في مائة وعشر موضعاً من النَّهْج، ليدل على:
1) المعنى الحقيقي (المادي): لقد أبرز الإمام (عليه السلام) مفاهيماً جديدة منها: (مالُ الله، مالُ المسلمين) سعياُ منه لتوثيق حقوق الأمَّة الإسلامية، وهذه السياسة هي فلسفة ضِدَّ الحُكَّام الذي نعدَّوه حقاً خاصاً لهم، وإن أعطوا منه أعطوه على سبيل التفضل والمَّن على الرَّعية، أمَّا الإمام (عليه السلام) فيشرح لولاته أنَّه حقٌ من حقوق الشَّعب.  والأمْوَال: جمع مال.  جاء به الإمام (عليه السلام)؛ ليدلَّ على ما يملكه الإنسان.  وهذا البيان الاقتصادي الذي وضعه يحمل دلالات ومعانٍ مهمة، بعيدة الغور، فقد ذهب إلى الفضل الدِّيني الذي لا يجب أن ينعكس بصورة دنيوية، فالمَّال ليس للسلطة الحاكمة؛ بل هو مال الله للأمَّة، لنتأمل قول الإمام (عليه السلام) لمَّا عُوتِب على التسوية: «مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ.!»[1]

 إذ ساوى الإمام (عليه السلام) في العطاء، وكان قراره في العدول عن تمييز الناس بالعطاء من أخطر قراراته الثورية؛ فقد أحدث إنقلابا إجتماعيا، فكان رد فعل الأغنياء منهم ـ وفي مقدمتهم قريش وأبناءهم ـ ضد علي وقراره هذا بداية الثورة ضد حكمه [2].، فقد أدرك الإمام (عليه السلام) إن ما أحدثه من مساواة في العطاء سيُوجِد أعداءاً كـُثُراً له،  فرَد أموال الشعب كان المُثار الأول للخلاف معه، وأنْتَقَدَ بعض الناقدين سياسته المتمثلة بالأخذ من الأغنياء والإعطاء للفقراء[3].
لكن هيهات هذا ما تأباه الرؤية الإسلامية والأخلاقية والمبدئية العلوية التي مثلها الإمام (عليه السلام)، ومن البديهي إنَّ الإمام (عليه السلام) لم يملك أموالا يُفَاضِل بها، وهذا ليس من مبادئه. 
 وأصل المَّـال (مَوَل) فالألف منقلبة عن واو، لِوقُوعِ الواو مُحَرَّكة، وما قبلها مفتوح قُلبت ألفا (إعلال بالقلب) مـ ـَـ / وـَـ / ل ـَـ     تقلب الواو الفا  مـ ـَـَـ ل    إعلال بالقلب
إنَّ الإمام (عليه السلام) دافع عن مُلكية الأمَّة بالعديدِ من الوسائلِ، وبرزت عنده مفاهيم من مثل (مَالُ اللهِ، مالُ المسلمينِ)،  وماهذه المفاهيم إلاَّ لترسيخِ حقوق الأمَّة المَّالية في ضمير أبنائها ضد فلسفة بعض الحُكَّام ممن عَدُّوا المالَ حقاً لهم،  وإن أعطوا لشعوبهم،  فبصيغة المَّن والتفضُّل على الشُّعوبِ،  وقد ورد مصطلح (المَّال)  مُعَرَّفا بأداة التعريف (ال)  ومُنَكَّرا في ثمانية وخمسين موضعا من النَّهْج[4].
2) المعنى المجازي: ومنها قوله في الخطبة الشقشقية ترجيحاً للصَّبر: «الَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خَضْمَ الاْبِل نِبْتَةَ الرَّبِيعِ»[5].

  فـ(الخِضَّم) على زنة (فِعَل) قصره اللغويون على كلِّ عمل قام به الفَّم.  و(يَخْضِمُون) منصوب المحل على الحَالية، وهو كناية عن كثرة توسعهم بمالِ المسلمين وشدة أكلهم.  وقد إتفق شرَّاح النَّهْج مع اللغويين على أنَّ الخِضَّمَ الأكل بجميع الفم، ويقابله القَضْم الأكل بأطراف الأسنان، وقيل:  الخِضَم أكلُّ الشَّيءِ الرَّطبِ،  والقِضَم:  أكلُ الشَّيءِ اليابس،  والمراد على التفسيرين لا يختلف وهو أنَّهم على قدم عظيمةٍ من النَّهم وشدة الأكل وإمتلاء الأفواه[6]. 
   فخضم الإبل ؛ لما فيها من الطِيب والرِّقة،  وأكلها يعظم فيها ؛ لذا شبَّه حالهم بأكل الإبل لها،  ثم أقام على هذه الصفة،  وكناية عن كثرة توسيعهم في أكل مال المسلمين المال من غير مبالاة لهم فيه[7].
  وخطبة له قال فيها: « فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لاِخِيهِ غَفِيرَةً في أَهْل أَوْ مَال أَوْ نَفْس فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً»[8].
والغفيرة: الزيادة،  وهي كثرة الاولاد والاعوان،  والعمر الطويل في النفس،  والجاه والصحة في الأهل،  والمال يلتمس مافي أيديهم، ومعناه أنَّ الطيب الصالح يغض البصر عما في أيدي الناس،  ويترفع عن الحسد[9].
وقوله: « لامَالَ أعْوَدُ مِن العَقْلِ»[10].
الجملة فيها مُمتَدة، ووزنها مُطلق لا يَقعُ على مُعَين، وقائمة بـ(لا) وإسمها وخبرها.  وقد تكررت (لا)  النافية للجنس كثيرا مع إسمها المفرد النكرة المبني؛ لتكون عامة شاملة لجميع ما بعدها،  كــــ(لا وحدة َ، لاعقلَ،  لا كرمَ،  لا قرينَ،  لا ميراثَ،  لا قائدَ،  لا تجارةَ،  لا زرعَ،  لا ورعَ،  لا زهدَ،  لا علمَ،  لا عبادةَ،  لا إيمانَ،  لا شرفَ، لا عزَّ)،  فـ(لا مالَ،  لا وحدةَ)  بعدهما اسم تفضيل (أعود،  أوحش)  وخبر (لا)  بعدهما مسبوق بحرف جر (الكاف)  الذي يفيد التشبيه وعطف على كل الجمل بالواو. 

  وقد كتب مصطفى صادق الرافعي مقالا بعنوان «الدِّينار والدِّرهم» قائلا: «الفقيه الذي يتعلق بالمال هو فقيه فاسد، يفسد الحقيقة التي يتكلم بها.  فلقد رأيت فقهاء يعظون الناس في الحلال ونصوص الكتاب والسنة.  وتسخر منهم الحقيقة بذات الاسلوب الذي يسخر به لِصَّا آخراً»[11].

إنَّ الاشتراكيين ردَّوا على الرأسماليين بفتح الطَّريق للأغنياء للسيطرة على رجال الدَّولة والحكم وخضوع السياسة لمصالحهم، وإلاّ فمحاربتهم بالمَّال، فالملكية ذات أثر سلبي في سلوك الفرد.  وتحدث د.عباس محمود العقاد فرأى أنَّه لم يعرف أحد من الخلفاء أزهد من الإمام (عليه السلام)  في لذة دنيا أو سبب دولة،  وكان هو أمير المؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها،  وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول:  لا احبُّأن يدخل بطني ما لا أعلم[12].

إلاَّ أننا نجد أنَّ الإمام (عليه السلام) برغم ما أثاره فهي مسألة غير مجدية وفقا للرُّؤية الإسلامية إذ كيف يعطي الأموال والثروات للرؤساء، ومن ناحية أخرى الإمام (عليه السلام) لا يملك أموالا ليفاضل بها، إلاَّ أن يأخذ من الفقراء ليقدمها إلى الأغنياء. فلو ثبت على ما كان لأخذنا منه ما تيسر وصبرنا فيما تعسر حتى يفي بالوعد.  وقال (عليه السلام): «فلا أموالَ بَذَلتُمُوهَا للذَّي رَزَقَها»[13].
ويُفسَّر قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[14]
فالله (سبحانه وتعالى) يختبرهم بهما ليتبين الساخط من الراضي بقسمه «ومعنى ذلك أنَّه سبحانه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب لأنَّ بعضهم يحب تثمير الأموال ويكره إنثلام الحال»[15].
وقد تعددت التعريفات للمَّال فأصبح يُطلق على معانِ عدة، إذ خصصه بعض اللغويين بالمعنى الضيق بما يملك من ذهبٍ أو فضة أو بكونه الثياب والمتاع والعروض[16].
والأصل في حروفه أنَّ» الميم والواو واللام كلمة واحدة، هي تموَّل الرَّجلُ: «إتَّخذَ مالاً.  ومالَ يُمال: كثر ماله»[17]. 
و هو مشتق من مادة (مول)، يذكر ويؤنث؛ فيقال: هو المَّال وهي المَّال، كل ما تمول،  ويدلُّ على كل ما يملكه المرء من متاع،  أو عروض تجارة،  او عقار،  او نقود،  والأصل فيه الذَّهب والفضة،  ثم أطلق على سائر ما يُملك،  وعند أهل البادية النِعَم[18]. )[19].

الهوامش:
[1] نهج البلاغة: خ 126، 130.
[2] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 1 / 353.
[3] ظ:  الفكر الإجتماعي لعلي بن أبي طالب:  محمد عمارة:  7.
[4] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  1 / 353.
[5] نهج البلاغة:  خ 3،  15.
[6] ظ:  منهاج البراعة:  3 / 84  وظ:  شرح نهج البلاغة:  ابن ابي الحديد:  1 / 191.
[7] ظ:  منهاج البراعة:  2 / 84 ـ 85.
[8] نهج البلاغة: خ 23،  28.
[9] ظ: الديباج الوضي:  / 320.
[10] نهج البلاغة: الحكم القصار: 234، 384.
[11] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  6 / 99.
[12] عبقرية الإمام علي (عليه السلام):  2 / 26.
[13] نهج البلاغة:  خ 117،  124.
[14] الأنفال / 28.
[15] المال المثلي والمال القيمي في الفقه الاسلامي:  28. 
[16] اختلف في تعريف المال بين اللغويين والفقهاء ؛ تبعا لاختلافهم وجهات نظرهم في صفته ووظيفته،  فقد توسعت بعض التعريفات له،  فأصبح يطلق على ما يملكه الإنسان من ذهب،  فضة،  حيوان،  نبات،  وأرضٍ.  أمَّا ما لا يملكه وعرفه الفقهاء بأنَّه النقد والعروض. ظ:  العين (مادة مول):  8 / 344.
[17] مقاييس اللغة:  5 / 285.
[18] ظ:  النهاية في غريب الحديث والأثر:  4 / 114 
[19]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 159-165.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2889 Seconds