القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة نظرة علي (عليه السلام) إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة 1- الدنيا في فكر علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة نظرة علي (عليه السلام) إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة 1- الدنيا في فكر علي (عليه السلام)

881 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-11-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
وردت كلمة (دنيا) مفردة ومضافة في نهج البلاغة في مئتين وثمانية وعشرين موضعاً تقريباً، هذا عدا الضمائر التي تعود عليها([1])، ومن خلال تتبعنا لانتشارها الواسع ذاك، وجدنا أنها تحمل كثيراً من المعاني التي يمكن حصرها في ثلاث مجموعات متجانسة حاول علي عليه السلام من خلالها تسليط الضوء على جميع جوانبها الإيجابية والسلبية بنظرة ملؤها الإيمان المفعم بحب الإنسانية. فالناظر بإمعان في معاني المجموعات الثلاث كما وردت في النهج، يتصورها ذات وجوه مختلفة، ومعان متباينة، وأوصاف متداخلة، تغلب العتمة والتيئيس على معظمها، إلا أنها ترد في مواضع قليلة جدا، حالمة في طياتها معاني الحب والايمان، وهي في ناحية ثالثة، ذات صور متباينة لا تستقر على حال، لأنها جوهر زائل تنقصه الديمومة، ويمكن ملاحقة تلك المعاني من خلال الحزم الثلاث التالية:

الأولى ـ الدنيا المكانية:
والمقصود بها كل الكون الذي خلقه الله وفي مقدمته الأرض، التي أهبط الله إليها الإنسان لتكون مقرا لابتلائه، فالدنيا بهذا المعنى الواسع تشمل كل ما يتعلق بالحياة الطبيعية للإنسان من مسكن ومأكل وشراب ولباس، وهواء، وشمس وقمر وكواكب، وكل ما في الطبيعة مما يحتاجه الإنسان ليتأقلم وحياته التي يريدها الله له، ويمكن تتبع هذه المعاني بكل اتساع وشمولية في فكر علي عليه السلام من خلال موضوع خلق الكون، كما ورد في النهج([2])، وهو ما يمكن تسميته بالجانب التأملي المصور لقدرة الله تعالى، ويهدف علي عليه السلام من ورائه ـ كما تتصور ـ تمكين العقل إلى الوصول من تلقاء نفسه إلى فكرة التوحيد، بالنظر في ابداعاته المتوحدة التي تستعصي في استجابتها وتكوينها على أي فكر إنساني مها تناهت قدرته، وتسامت عبقريته.

ولكن هناك جانبا إيمانيا آخر عالجه علي عليه السلام عن طريق خلق الدنيا كمكان، ويتمثل في العلاقة الترابطية بين ذلك المكان الدنيوي وبين الإنسان الذي من أجله خلقت تلك الدنيا، إذ ليس يكفي أن يعرف الإنسان قصة الدنيا، بل يجب ان يعرف أيضاً ان الله سبحانه وتعالى، كما يقول علي عليه السلام «هو الذي أسكن الدنيا خلقه»([3]) مما يعني أن أولئك الخلق هم من ضمن ذلك الكون الموحد، المكمل لبعضه بعضاً، والمخلوق بقدرته سبحانه، إذ لا مجال للشك على الاطلاق، بأن الخلق، وكل ما يتعلق بهم من اشياء حياتية هي من تدبير الله وإحكامه ويتضح ذلك من قول علي عليه السلام «خلق الخلق... ووضعهم من الدنيا مواضعهم»([4]) أي هيأ لهم المواضع المناسبة التي تمكنهم من التأقلم مع محيطهم بقدرته التي طالت كل شيء في الوجود، من جامد ومتحرك وموات وذي روح، ويمكن استخلاص ذلك من قول علي عليه السلام «انقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها»([5])، وعلي عليه السلام حين يركز على ذلك الجانب يريد أن يصل بنا إلى نقطة ذات أهمية كبرى تكاد تكون مرتكزه الفكري بالنسبة لاعتبار المعنى المكاني للدنيا. فإذا كان المكان في الفكر الإنساني المحدود، يعني الاستقرار المقرون بالديمومة والراحة والاطمئنان فإنه يعطي الدنيا بعدا مكانيا لا يقرنه بأية استمرارية بتعبيره عن ذلك بقوله «ان الدنيا لم تخلق لكم دار مقام»([6]) لأنها من وجهة نظره «دار فناء وعناء»([7]) ويستحيل استمراريتها على نمط معين فمكانيتها لا تعني الثبات والديمومة، فهي من هذه الناحية «دار دول»([8])، لذلك يجب على من يعيش على أديمها أن يضع في اعتباره، أن الركون إلى مغرياتها والجري وراء ملذاتها والتكالب على مقتنياتها في ظل فكرة الخلود التي تراوده، ما هي إلا حلم بعيد المنال، لأنها كما يقول علي عليه السلام «دار لا يسلم منها الا فيها»([9])وبإمكان الإنسان إدراك ذلك بمجرد تفكيره في خلق الكون من حوله، فقد يستبعد عقله المحدود فكرة فناء هذا الكون المحكم الذي يستعصي انحلاله أو تفكيكه، أو حتى تغيير توازنه، لكنه لو أمعن النظر، ومد ببصيرته إلى ما وراء المجردات لتوصل من خلال ذلك ـ كما يقول علي عليه السلام ـ إلى أن «ليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها»([10]) لأن الله سبحانه قد حدد لكل خلق خلقه وقتا لايمكننه تعديه، إذ لا أزلية ولا دوام إلا له سبحانه وتعالى، فكما يقول علي عليه السلام، فإن الفناء في نهاية الأمر يعم كل شيء «وإن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا ولا شيء معه»([11]). والفكرة ببعدها المكاني المتضمن قضية الخلق زمانيا ليست من ابتداع علي عليه السلام، لأنها مطابقة لمعاني القرآن الكريم المتمثلة في قوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}([12]) أما الغاية التي من أجلها كان تركيز علي عليه السلام على فكرة الدنيا المكانية وزوالها فهي: إنه ما دام مآل الدنيا إلى الزوال، وما دام الإنسان غير مستقر عليها فعليه أن يقوم بواجبه تجاهها، في حدود ما فرضه الله عليه، ولا يتمادى في التكالب عليها، والركون إلى مغرياتها لتمثل زوالها أمامه من خلال قصور شيدت ثم هجرت فأصابها البلى، ومقتنيات استمات أصحابها في جمعها فبددها ورّاثهم من بعدهم، وجبابرة تسلطت فكان مصيرهم الفناء([13])، مبلغ مستقر الإنسان في هذه الدنيا، أن يأخذ ويعطي بما يتناسب ومكانته الإنسانية، متمثلا دوره عليها في حدود ما رسمه الله له، ومن خلال هذا المعنى، تدخل الآخرة في مقابل الدنيا باعتبارها دار خلود متصلة في جوهرها بعمل الدنيا، والمسافة الفاصلة بينهما مسافة زمانية يقطعها الإنسان بعمره المقدر، فيتعانق المكان بالزمان ليشكلا مصير الإنسان الأبدي بعد دنياه الفانية(([14]).

الهوامش:
([1]) من احصائية قسمنا بها في النهج رصدنا خلالها كلمة (دنيا) وجدنا انها قد وردت مفردة أو مضافة فيما يقارب من مئتين وثمانية وعشرين (228) موضعا، كما تكرر أيضاً بصيغة ضمير الغائبة فيما يقارب من ستمئة وواحد وعشرين (621) موضعا، هذا بالإضافة إلى تكرر ما يشير إليها من أسماء، ومعان مثل: دار العبرة، دار البلية، باحة الاحتشاد... وهو ما يستشف منه اهتمام علي (عليه السلام) البالغ بهذا الجانب الخطير، الذي حاول عن طريق الحديث المتكرر فيه كشف عيوب الجانب المادي ـ الذي استفحلت شروره وبانت تأثيراته السلبية في روح المحارب المسلم. بإخلاده إلى الدعة.
([2]) يمكن مراجعة ذلك في: الخطبة رقم ـ 1، والخطبة رقم 90 ـ المسماة بخطبة الأشباح.
([3]) خطب ـ 185ـ فقرة 1.
([4]) خطب ـ 187ـ فقرة 1.
([5]) خطب ـ 133ـ فقرة 1.
([6]) خطب ـ 132ـ فقرة 2.
([7]) رسائل ـ 72.
([8]) خطب ـ 62ـ المطلع.
([9]) المصدر السابق نفسه.
([10]) خطب ـ 234ـ فقرة 3.
([11]) السابق ـ فقرة ـ4.
([12]) الرحمن /26، 27.
([13]) راجع على سبيل المثال ـ خطبة ـ82ـ الفقرة 7ـ ورسالة ـ 3 فقرة 2.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 563-566.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1009 Seconds