القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة نظرة علي (عليه السلام) إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة 2- الدنيا الزمانية

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة نظرة علي (عليه السلام) إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة 2- الدنيا الزمانية

360 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-11-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
الزمن عنصر أساسي في فكر علي عليه السلام لأنه كما يرى مرتبط ارتباطا محكما بحياة الإنسان من جميع جوانبها، فالصلاة وهي ركن تعبدي في الإسلام، إلا أنها تعني عند علي عليه السلام مقياسا يمكن من خلاله معرفة مدى التزام الفرد بالوقت المحدد لكل عمل يناط به، فإذا كان الفرد ملتزما بصلواته في أوقاتها المحددة، من دون تقديم ولا تأخير، فهو بلا شك يقدر قيمة الوقت فيباشر اعماله في إبانها، ويمكن استخلاص ذلك من قوله ضمن وصيته لمحمد بن أبي بكر حين ولاه مصر «صل الصلاة لوقتها المؤقت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال، واعلم ان كل شيء من عملك تبع لصلاتك»([1]) فالزمن على هذا الأساس مقياس لصدق الفرد مع ربه ومع نفسه ومع غيره من الناس، ولأهمية الزمن العظيمة في فكرعلي عليه السلام اعتبر الإنسان ذاته وقتا في قوله «انما الناس في نفس معدود وأمل معدود، واجل محدود فلابد لأجل ان يتناهى، وللنفس ان يحصى ولأمل أن ينقضي»([2]). فكل شيء في الوجود مقرون بزمن له بداية ونهاية، حتى الوجود ذاته، فإنه يمثل في أحد جوانبه زمنا كما يرى علي عليه السلام، ويمكننا استنتاج ذلك من تتبعنا إلى التقابل بين الدنيا والآخرة فيما ا ثر عنه من نصوص في النهج، فعدم استمرارية الدنيا، والتقلب في أحوالها، يعني ـ كما يظهر لنا ـ استحواذ الزمانية على شمولية الدنيا المكانية، على أساس اعتبارها دار مجاز، في مقابل الثبات المكاني الكامن في الاخرة كما في قوله «أيها الناس، انما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لسفركم»([3])، فالمجاز بأبعاده المعنوية يعني الحركة ضمن المكان، والحركة تعني الزمن، فالدنيا تعني الزمن الذي يقطعه الإنسان من دون العودة إليه، ولما كان ذلك الزمن لا يمكن أن يعود بالنسبة للإنسان، فيجب عليه أن يستغله استغلالا حسنا في إبانه كما يرى علي عليه السلام، وفي ذلك يقول «أن السعداء بالدنيا غدا، هم الهاربون منها اليوم»([4]) فالسعادة الابدية مرتبطة بالمستقبل المتمثل في الغد المتعلق بنتائج ماضي الدنيا اآنية بالهروب منها في وقتها الآني، فالزمن الدنيوي ببعديه الآني والمستقبلي في تداخل وتمازج ولكن النتائج بينهما في تقابل أبدي أيضا، لأنهما يمثلان الدنيا والاخرة فهما «عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها، أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب»([5]) والتفاوت والاختلاف فيما بينهما بالنسبة للإنسان يكمن أساسا في حركة العمل الإنساني عبر الدنيا الزمانية التي تتحول الحياة عبرها إلى سباق مع الزمن الكامن فيها، فالحرص على الامساك بالزمن وايقاف دوران عجلته من الأمور المستحيلة، لأنه لو حدث فإنه يعني تغيير نظام الكون بإيقاف علجة الدنيا المستمرة في دورانها، إلا أن سعي الإنسان نحو ذلك الهدف لا يتوقف، لأنه يمثل حقيقة الإنسان في حاجة المستمر في طلب المزيد من ذلك الوقت الدنيوي، الذي عادة ما يكون في مقابلة دائمة مع ذلك السعي كما يصوره قول علي عليه السلام «من طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه عنها، ومن طلب الآخرة، طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها»([6]). لذلك فمن الاجدى للإنسان في دنياه هذه، ان يدرك تماما، أن الزمن الدنيوي بما ينطوي عليه من إغراءات، هو في جوهره خسارة مؤقتة في مقابل. ربح ابدي. وفي هذا المعنى يقول «اعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا»([7]) على اعتبار أن الدنيا كزمان هي في الواقع عمر الإنسان منذ يوم ولادته حتى يوم وفاته، إذ انه بموته كما يقول علي عليه السلام «تختم الدنيا، وبالدنيا تحرز الآخرة»([8]) فالدنيا الزمانية على هذا المعنى باقية ما بقي وجود الإنسان مستمرا لأنها دنياه(([9]).

الهوامش:
([1]) رسائل ـ27 فقرة 4.
([2]) شرح ابن أبي الحديد 20/281.
([3]) خطب ـ197ـ المطلع.
([4]) خطب ـ220ـ فقرة ـ اخرها.
([5]) حكم ـ102.
([6]) حكم ـ440.
([7]) خطب ـ 113ـ فقرة 4.
([8]) خطب ـ56. فقرة ـ3.
([9]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 566-569.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1097 Seconds