من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخْلِصٍ مُوْقِنٍ))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخْلِصٍ مُوْقِنٍ))

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 29-11-2021

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: ((وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخْلِصٍ مُوْقِنٍ))
   تدلُّ مادَّة «شَهِدَ» في اللُّغة على الحضور، والعلم بالأَمر، والتَّبيين. قال ابن فارس: «الشَّين والهاء والدَّال أَصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عن الَّذي ذكرناه. من ذلك الشَّهادة، يجمع الأُصولَ الَّتي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام. يقال شَهد يَشْهَدُ شَهَادَةً. والمَشهد: محضر النَّاس... وشَهِدَ فلانٌ عند القاضي، إذا بيَّنَ وأَعلَمَ لمن الحقُّ، وعلى مَنْ هو»[1].
وقال الرَّاغب: «الشُّهُودُ والشَّهَادَةُ: الحضور مع المشاهدة، إمَّا بالبصر، أَو بالبصيرة... والشَّهَادَةُ: قول صادر عن علمٍ حَصَلَ بمشاهدة بصيرة أَو بصر...»[2].
والشَّهيد من أَسماء الله ــ تبارك وتعالى ــ الأَمين في شهادته، وقيل: الشَّهيد الَّذي لا يغيب عن علمه شيء، والشَّهيد الحاضر[3]، والشَّهيد على زنة (فعيل)، وهو من أَبنية المبالغة من (فاعل) [4]، والشَّهيد بمعنى الشَّاهد، كما أَنَّ العليم بمعنى العالم، والرَّحيم بمعنى الرَّاحم، والشَّاهد خلاف الغائب، فالشَّهيد هو الشَّاهد الَّذي يَشهَدُ بما عاين وحضر[5]، والشَّاهد: اسم لله ــ جلَّ وعلا ــ باعتبار فعليَّة تلك الصِّفة بالنِّسبة إلى كُلِّ موجود[6].
وقيل: ما «كان حاضراً في قلب الإنسان، وغلب عليه ذكره؛ فإنْ كان الغالب عليه العلم، فهو شاهد العلم، وإنْ كان الغالب عليه الحقّ، فهو شاهد الحقِّ»[7].
وورد هذا الفعل «شَهِدَ» في الخطبة ثلاث مرَّات، ورد في المرَّة الأُولى ماضياً مبنيَّاً على السُّكون؛ لاتــِّصاله بضمير رفع متحرِّك، أُسندَ إليه، عائدٌ إلى أَمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ قال:  «وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخْلِصٍ مُوْقِنٍ»، فشهادة أَمير المؤمنين (عليه السلام) قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر وبصيرة، شهادة بربوبيَّة الله ــ تبارك وتعالى ــ، شهادة مخلص موقن بهذا القول.
وورد في المرَّة الثــَّانية ــ أَيضاً ــ مبنيَّاً على السُّكون؛ لاتــِّصاله بضمير رفع متحرِّك، أُسندَ إليه عائد إلى أَمير المؤمنين (عليه السلام)، مُقِرَّاً فيها أَمير المؤمنين (عليه السلام) ببعثة النبيِّ الأَكرم ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ، إذ قال (عليه السلام):  «وشَهِدْتُ ببعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ، ورَسُوْلِه، وَصَفِيِّهِ، وحَبـِيْبـِهِ، وَخَلِيْلِهِ، بَعَثَهُ فِي خَيْرِ عَصْرٍ، وفي حينِ فَتْرَةٍ وَكُفْر؛ رَحْمَةً لِعَبـِيْدِهِ، وَمِنَّةً لِمَزِيْدِهِ، خَتَمَ بـِهِ نـُبُوَّتَهُ، وَقَوَّى بـِهِ حُجَّتَهُ».
أَمَّا في المرَّة الثــَّالثة، فورد مبنيَّاً على الفتح، متــَّصلاً بتاء التَّأنيث السَّاكنة؛ إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان حال الإنسان يوم القيامة، يوم تشهد عليه جوارحه بما ارتكب من معاصٍ، وذنوب، وآثام:  «فَيُنْشَرُ مِنْ قَبْرِهِ حِيْنَ يُنْفَخُ فِيْ صُوْرٍ... فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بـِنَظَرِهِ، ويَدُهُ بـِبَطْشِهِ، وَرِجْلُهُ بـِخَطوِهِ، وجِلدُهُ بـِمَسِّهِ، وفَرْجُهُ بـِلَمْسِهِ»، وفيه تضمين لقوله ــ تعالى ــ : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [8].
و«فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بـِنَظَرِهِ» (شهدت): فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأْنيث السَّاكنة، و(عينُهُ) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمير متــَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و(بنظره) الباء: حرف جرٍّ، و(نظره): اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، والهاء ضمير متــَّصل مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، وجملة (فَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بـِنَظَرِهِ) معطوفة على جملة (فَيُنشرُ من قَبْرِهِ حينَ يُنْفَخُ في صُوْرٍ)[9].

الهوامش:
[1]. معجم مقاييس اللغة 3/221.
[2]. مفردات ألفاظ القرآن: 465.
[3]. ينظر: لسان العرب: 3/238 و239، وتاج العروس: 8/238 و239.
[4]. ينظر: تاج العروس: 8/239.
[5]. ينظر: اشتقاق أسماء الله: 132.
[6]. ينظر: شرح الأسماء الحسنى: 70.
[7]. التعريفات: 164.
[8]. فصلت: 19-21.
[9]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 54 - 56.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2787 Seconds