بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
الدَّعَق شدة وطءِ الدواب الأرض حتى تصير فيها أثار من دعقها[1]. ودعقت الإبل الحوض، إذا وردته وازْدَحَمَتْ عليه، فَخَبَطَتْه حتى تَثْلِمُهُ[2]. وطريق مَدْعُوق، أي مَوْطُوء[3]. ولفظة (تَدْعَق) من الفاظ نهج البلاغة التي وردت فيه مرة واحدة[4]؛ للدلالة على وطء الخيل الأرض في الحرب، يقول الإمام (عليه السلام) في سياق الحث على قتال العدو، وإنزال الهزيمة به: ((... إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهمْ دُونَ طَعْن دِرَاك يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ، وَضَرْب يَفْلِقُ الْهَامَ... وَحَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِر[5] أَرْضِهِمْ...))[6] ومفردة (تَدْعَق) تحتمل دلالات متعددة، فقد ذكر الشريف الرضي أنها تدل على (الدَّقّ). والمعنى: حتى تَدَقّ الخيول بحوافرها أرضهم[7]، والمراد بنواحر أرضهم. متقابلاتها يقال: منازل بني فلان تتناحر، أي: تتقابل[8]. وقد أخذ اللغويون هذهِ الدلالة عن الشريف الرضي - فيما يبدو - عند بيانهم معنى مفردة (نَواحِر) في كلام أمير المؤمنين سالف الذكر. فذكروا القول نفسه الذي نص عليه السيد الشريف[9]. أما مفردة (تَدْعَق)، فأصلها في اللغة الدفع الكثير كما يفهم من كلام الخليل[10]. ويبدو أنهم اخذوا دلالة (الدَّق) في هذهِ المفردة من معنى الدفع؛ لأن الدق في أصله ناشئ من الدفع. وقد خطّأ ابن سيده اللغويين الذين ذهبوا إلى أن (دَعَقَ) أصله من (دَقَّ) المضعّف كأن (العين) فيه زائدة في أصل المفردة، أو انها بدل من (القاف) الأولى في (دَقَقَ)[11]. ووصف ذلك الرأي بأنه من ضَعَفَةِ أهل اللغة[12]. والدَّعْقُ إذا كان منسوباً إلى حوافر الخيل، فهو الوطء المصحوب بمواضع الأرجل التي تدل على انغراس أقدام الخيل في الأرض مخلفة تلك الآثار التي تكون أشبه بالحفر الصغيرة ويقال للطريق التي وطأته الدواب بأرجلها طريق مدعوق[13]. أما إذا وطأت الإبل الأرض بأخفافها، فيسمى وطؤها خبطاً [14].ويمكن أن نفهم من دلالات مفردة (تَدْعَق) التي ذكرها اللغويون معانٍ أخرى غير الدلالة على ذكر، الشريف الرضي. فتتسع دلالة المفردة لتكون دالة على الوطئ والتأثير في أرض الاعداء، كناية عن التأثير وإشاعة القتل بهم، والسيطرة على مواضعهم التي كانوا يحوزونها.كأن دَعْقَ الخيول لأراضيهم يمثل علامة على النصر والفلج وإذلال الاعداء بعد أن وصلت الخيل إلى أقاصي أراضيهم.
وقد أشار اللغويون من الذين ذكروا قول الإمام (عليه السلام) إلى هذا المعنى، على الرغم من أنهم أوردوا رواية مختلفة عما موجود في نهج البلاغة، فقد نقل ابن الأثير الجزري وابن منظور قول الإمام بالنص الآتي: ((وفي حديث علي، وذكر الفِتْنَة، فقال حَتّى تَدْعَق الخَيْل في الدِّماء))[15]. وفسرا مفردة (تَدْعَق) بأنها تعني (طَأ)، من قولهم: دعقت الدواب الطريق، إذا أثرت فيه[16]. ومما يعضد هذا المعنى دلالة مفردة (نواحر) التي يمكن أن تدل على أقاصي الأرض وأطرافها، فضلاً عن الدلالة التي ذكرها السيد الشريف. وذلك من قولهم لآخر ليلة من الشهر إنها (نحيرة) بمعنى (نَاحِرَة). كأنها تصير في نحر الشهر، فتنحر الهلال؛ ليستقبل بها أول الشهر[17]. وتحتمل مفردة (تَدْعق) دلالة أخرى، وهي الدلالة على الهياج والنفير، من قولهم: دعق القوم، إذا هاج منهم ونفرهم[18]. أي شد عليهم وحمل. وأزيد على هذا الوجه أن (الدَّعق) يمكن يكون إشارة - أيضاً - إلى تقدم الخيل في الغارة على الأعداء، كأنها طلائع الجيش التي تدخل أراضي العدو وذلك من قولهم: خَيْل مَدَاعِيق، وهي المتقدمة في الغارة[19])([20]).
الهوامش:
[1] ينظر: العين (دعق): 1/145، والمحكم (دعق): 1/174، ولسان العرب (دعق): 10/97.
[2] ينظر: تهذيب اللغة (دعق): 1/140.
[3] نفسه.
[4] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 152.
[5] النواحِر من الأرض مقابلاتها. ينظر: لسان العرب (نحر): 5/197.
[6] نهج البلاغة: خ/ 124: 229، وقد نقلت المدونات اللغوية قول الإمام: (حَتّى تَدُعَقّ الخيول في نواحِرِ أَرْضهِم)). ينظر: النهاية في غريب الحديث: 5/26، ولسان العرب (نحر): 5/197.، و (دعق): 10/97. برواية أخرى هي ((حتى تدعق الخيل في الدماء)).
[7] ينظر: نهج البلاغة: خ/124: 229.
[8] نفسه.
[9] ينظر: النهاية في غريب الحديث: 5/26، ولسان العرب (نحر): 5/97.
[10] ينظر: العين (دعق): 1/145.
[11] ينظر: المحكم (دعق): 1/174.
[12] نفسه.
[13] ينظر: لسان العرب (دعق): 10/97، وتاج العروس (دعق): 25/290.
[14] المحكم (دعق): 1/174، وينظر: لسان العرب (دعق): 10/97.
[15] النهاية في غريب الحديث: 2/119، ولسان العرب (دعق): 10/97.
[16] نفسه.
[17] ينظر: تهذيب اللغة (نحر): 5/10، وشرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 8/9، وشرح نهج البلاغة (البحراني): 3/558.
[18] ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 8/9.
[19] ينظر: المحكم (دعق): 1/174.
([20])لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 132-134.