الدنيا في كلام له (عليه السلام) قاله بعد تلاوته: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله}

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في كلام له (عليه السلام) قاله بعد تلاوته: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله}

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 15-09-2025

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ (جِلَاءً لِلْقُلُوبِ) تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ إِلى أَن يقول عليه السلام: - وَإِنَّ لِلذَّكْرِ لَأَهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ، يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ، وَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ، فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا ، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، فَكَأَنَّمَا أَطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا ، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ، وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ ...([1]) .

شرح الألفاظ الغريبة:
الذكر: استحضار الصفات الإلهية: جلاء: - بالكسر - من جلا السيف يجلوه إذا صقله وأزال منه صدأه؛ الوَقْرَة: ثقل في السمع؛ العَشْوة: ضعف البصر؛ هَتَفَ به: -كضرب - صاح ودعا، وهتف الحمامة: صائت؛ القسط: العدل؛ يأتمرون به: يمتثلون الأمر؛ العِدات : - جمع عدة بكسر ففتح مخفف - الوعود([2]).

الشرح:
قوله: «إن الله سبحانه ...» إلى قوله: «بعد المعاندة»: إنما يتضح بالإشارة إلى الذكر وفضيلته وفائدته: الذكر هو القرآن الكريم لقوله تعالى: {وَهُذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}([3])، ونحوه، وقيل: هو إشارة إلى تحميده تعالى وتسبيحه وتكبيره وتهليله والثناء عليه ونحو ذلك.
وأما فضيلته فمن القرآن قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}([4]) وقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}([5])وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله}([6]) الآية، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله}([7]) الآية.
وأما من الأخبار فقوله (صلى الله عليه وآله): ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارين([8]) .
وقوله (صلى الله عليه وآله): يقول الله: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه([9]). وقوله: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله([10]).
قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن تضرب بسيفك إلى أن ينقطع، ثم تضرب به حتى ينقطع - ثلاثاً -. وقوله: من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر منه ذكر الله([11])، ونحو ذلك.
فأمّا فائدته: فاعلم أن المؤثر من الذكر والنافع منه ما كان على الدوام أو في أكثر الأوقات مع حضور القلب، وبدونها فهو قليل الجدوى.

وبذينك الاعتبارين هو المقدم على سائر العبادات بل هو روح العبادات العملية وغاية ثمرتها، وله أول يوجب الأنس بالله، وآخر يوجبه الأنس بالله، وذلك أن المريد في مبدء أمره قد يكون متكلفاً لذكر ليصرف إليه قلبه ولسانه عن الوسواس فإن وفق للمداومة أنس به وانغرس في قلبه حب المذكور، ومما ينبه على ذلك أن أحدنا يمدح بين يديه شخص ويذكر بحميد الخصال فيحبه ويعشقه بالوصف وكثرة الذكر ثم إذا عشق بكثرة الذكر اضطر إلى كثرة الذكر آخراً بحيث لا يصبر عنه فإن من أحب شيئاً أكثر ذكره ومن أكثر من ذكر شيء وإن كان متكلفاً أحبه ؛ وقد شاهدنا ذلك كثيراً.
كذلك أوّل ذكر الله متكلّف إلى أن يثمر الأُنس به والحبّ له.

ثمّ يمتنع الصبر عنه أخيراً فيثمر الثمرة، ولذلك قال بعضهم: كابدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة، ولا يصدر التنعم إلا عن الأنس والحب، ولا يصدر الأنس إلا من المداومة على المكابدة حتى يصير التكلف طبعاً، ثم إذا حصل الأنس بالله انقطع عن غير الله، وما سوى الله يفارقه عند الموت فلا تبقى معه في القبر أهل ولا مال ولا ولد ولا ولاية ولا تبقى إلا المحبوب المذكور فيتمتع به ويتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه من أسباب الدنيا ومحبوباتها.

إذا عرفت ذلك فقوله: «جعله جلاء»: إشارة إلى فائدته وهي استعداد النفوس بمداومته على الوجه الذي ذكرناه لمحبة المذكور والإعراض عما سواه، واستعار لفظ الجلاء لإزالة كل ما سوى المذكور عن لوح القلب بالذكر كما يزال خبث المرأة بالصقال، وتجوز بلفظ السمع في إقبالها على ما ينبغي أن يسمع من أوامر الله ونواهيه وسائر كلامه، والوقرة لإعراضها عنها، وكذلك بلفظ البصر في إدراكها للحقائق وما ينبغي لها، ولفظ العشوة لعدم ذلك الإدراك إطلاقاً في المجازات الأربعة لاسم السبب على المسبب وانقيادها له : أي للحق، وسلوك طريقه بعد المعاندة فيه والانحراف عنه.

وقوله: «وإن للذكر لأهلاً ...» إلى قوله: «أيام الحياة»: فأهله هو من ذكرنا أنهم اشتغلوا به حتى أحبوا المذكور ونسوا ما عداه من المحبوبات الدنيوية، وإن من حب محبة المذكور محبة ذكره وملازمته حتى اتخذوه بدلاً من متاع الدنيا وطيباتها ولم يشغلهم عنه تجارة ولا بيع وقطعوا به أيام حياتهم الدنيا.
وقوله: «ويهتفون ...» إلى قوله: ويتناهون عنه: إشارة إلى وجوه طاعتهم لله وعبادتهم له وهي من ثمرات الذكر ومحبة المذكور؛ لأن من أحب محبوباً سلك مسلكه ولم يخالف رسمه وكان له في ذلك الابتهاج واللذة.

وقوله: «فكأنما قطعوا ...» إلى قوله: «عداتها»: تشبيه لهم في ثقتهم بالله وبما جاءت به كتبه ورسله، وتحققهم لأحوال القيامة ووعدها ووعيدها بعين اليقين عن قطع الدنيا من أحوال أهل البرزخ وطول إقامتهم فيه فكشفوا غطاء تلك الأحوال لأهل الدنيا بالعبادات الواضحة والبيانات اللائحة حتى كأنهم في وصفهم لها عن صفاء سرائرهم وصقال جواهر نفوسهم بالرياضة التامة يرون بأبصارهم ما لا يرى الناس، ويسمعون بآذانهم ما لا يسمعون الناس. إذ يخبرون عن مشاهدات ومسموعات لا يدركها الناس، ولما كان السبب في قصور النفوس عن إدراك أحوال الآخرة هو تعلقها بهذه الأبدان واشتغالها بتدبيرها والانغماس في الهيئات الدنيوية المكتسبة عنها، وكان هؤلاء الموصوفون قد غسلوا درن تلك الهيئات عن ألواح نفوسهم بمداومة ذكر الله وملازمة الرياضة التامة حتى صارت نفوسهم كمرأى مجلوة حوذي بها شطر الحقائق الإلهية فتجلت وانتقشت بها لاجرم شاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة وسبيل الهلاك وما بينهما فسلكوا على بصيرة وهدوا الناس على يقين وأخبروا عن أمور شاهدوها بأعين بصائرهم وسمعوا بآذان عقولهم فكأنهم في وضوح ذلك لهم وظهوره وإخبارهم عنه قد شاهدوا ما شاهده الناس بحواسهم فشاهدوا ما لم يشاهده الناس وسمعوا ما لم يسمعوه([12]))([13]).

الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: ٣٤٢ - ٣٤٣ من كلام له رقم ٢٢٢، ونهج العطار: ٤٥٦ - ٤٥٧/من كلام له رقم ۲۲۱ ، وشرح النهج لابن ميثم ٦٦:٤ - ٦٧ / من كلام له رقم ۲۱۳ ، ونهج محمد عبده ١: ٤٧٣ - ٤٧٤
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: ٦٦٨.
([3]) الأنبياء: ٥٠.
([4]) البقرة: ١٥٢.
([5]) الأحزاب: ٤١.
([6]) البقرة: ۱۹۸.
([7]) البقرة: ۲۰۰.
([8]) بحار الأنوار 90: 158.
([9]) مسند أحمد بن حنبل ٢: ٥٤٠.
([10]) سنن ابن ماجة ٢: ٣٧٩٠/١٢٤٥
([11]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 10: 75.
([12]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 68-71/ شرح كلام له عليه السلام رقم 213.
([13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 329-334.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.0910 Seconds