خُطَى الخُزَاعي
مثَّل أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أبان خلافته الظاهرية - بظروفها المعقدة - الأنموذج الأتم للنسخة الإلهية المطلوبة في الحاكم الإسلامي بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم)، مطبِّقًا أحكام الله تعالى في كل تفاصيل حكومته، فلم تلهه (صلوات الله عليه) الأزمات المتوالية عن متابعة شؤون رعيته مهما بَعُدت، ولم تحل تعقيداتها من دون تطبيقه للأحكام الإلهية مهما صَغُرت، فلا وسيلة مبرَّرة بغاية، ولا لفاسد محاباة، ولا لعقوبة تأجيل في دستوره الشريف أو في تطبيقاته الحُجة، وما حرب صفِّين الضروس إلّا تطبيق أبلغ فيها، ليبرز (صلوات الله تعالى عليه) مسؤولًا متفردًا بقابليات فذة عُدمت نظائرها؛ بل استحالت في غيره، فحقَّ له أن يستأثر بعنوان الحاكم الإسلامي الحق.
وبعيدًا عن شؤون تعاملاته المتعددة في الحكم قريبًا من تعامله مع بيت مال المسلمين، فقد أعطت الروايات الواردة في هذا الشأن قراءة واضحة عن مفهوم نزاهة في التعامل مع حقوق الناس، وشفافية لم تتكرَّر في غيره ممَّن شغل هذا العنوان، ابتداءً فقد سنَّ (صلوات الله عليه) أصول مراقبة الشعوب للحكام ماليًا، مطالبًا الحاكم بالكشف عن ذمته المالية أمام شعبه قبل الحكم وبعده، مقدَّمًا من نفسه (صلوات الله عليه) مثالًا يُتأسى به في ذلك فقد رويَّ أنَّه كان يقول بمسمع من رعيته: ((يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن))([1])، وأيضًا: ((يقول ويضع يده على بطنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا تنطوي ثميلتي([2])على قلة من خيانة، ولأخرجنَّ منها خميصًا([3]))([4])، ويُقرأ من روايات أخرى احتياطًا ودقة يكشفان عن أمانة عالية وزهد علوي يتيم، إذ حُكي عن بعض حالاته أنَّه لم يكن يمتلك ثمن إزار، كما روى مجمع عن أبي رجاء: أنَّه خرج أمير المؤمنين إلى السوق يبيع سيفه فقال: من يشتري مني هذا ؟ فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقلت له: أنا أبيعك إزارًا وأنسئك ثمنه إلى عطائك، فدفعت إليه إزارا إلى عطائه، فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار([5])، فيربأ بنفسه المقدسة أن تكون لها امتيازات حاكم، ويأبى إلّا انزالها من دون حال رعيته.
ونحو آخر من الروايات يكشف عن شدته في القسمة مسوِّيًا في العطاء بين المسلمين مصحِّحًا سياسة شاذة في المفاضلة بينهم على وفق اعتبارات استحسنها المُبتدِع، فأينعت تلك السياسة الخاطئة طبقية بتفاوت فاحش بين أفراد المجتمع، إذ يروى أنَّه ((لما ولي صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما إنِّي والله ما أرزأكم من فيئكم هذا درهمًا ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعًا نفسي ومعطيكم؟ فقام إليه عقيل فقال: فتجعلني وأسود في المدينة سواءً ؟ فقال: اجلس ما كان ههنا أحد يتكلم غيرك، وما فضلك عليه إلا بسابقة أو تقوى))([6])، وأيضًا ((أنَّ امرأتين أتتاه، إحداهما من العرب، والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهما وكرًا من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إنِّي امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم، فقال علي (عليه السلام): والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحاق))([7])، وقد أُثرَ عنه (صلوات الله عليه) موقفًا حازمًا يكشف عن رفضه لتفضيل أناس على آخرين في العطاء إغراءً لهم في البقاء إلى جانبه كما كان يفعل معاوية بن أبي سفيان في تكثير ذُبابه ((إنَّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) مشوا إليه عند تفرق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية طلبًا لِما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): أتأمروني أن أطلب النصر بالجور لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم وكيف وإنَّما هو أموالهم ...))([8])، فيثمن ضمنًا (صلوات الله عليه) قيمة الاعتقاد في الاتِّباع، مستغنيًا (صلوات الله عليه) عن أتباع تجلبهم المصلحة، وتجرهم المنفعة همهم الدنيا وزينتها التي قد طلَّقها (صلوات الله عليه) ابتداءً، فالزهد بمثلهم ماهو إلّا تحصيل حاصل، وطولي في منهجية زهده.
ومن رائع سُننه (صلوات الله عليه) أنَّه كان يكنس بيت المال بعد كل عطاء، ويصلي لله فيه ركعات، وممّا أُثر في ذلك: ((أعطى عليّ (عليه السلام) النّاس في عام واحد ثلاثة أعطية ثمّ قدم عليه خراج أصفهان فقال: أيّها النّاس اغدوا فخذوا فوالله ما أنا لكم بخازن، ثمّ أمر ببيت المال فكنس ونضح، فصلّى فيه ركعتين ثمّ قال: يا دنيا غرِّي غيري...))([9])، وأيضًا: ((عن الأصبغ بن نباتة، أنّه قال: كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إذا أتي بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثمّ جمع المستحقّين، ثمّ ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء لا تغرّيني غرّي غيري:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كلّ جان يده إلى فيه
ثمّ لا يخرج حتّى يفرّق ما في بيت مال المسلمين ويؤتي كلّ ذي حقّ حقّه، ثمّ يأمر أن يكنس ويرشّ، ثمّ يصلّي فيه ركعتين، ثمّ يطلِّق الدنيا ثلاثاً يقول بعد التَّسليم: يا دنيا لا تتعرّضي لي ولا تتشوّقي ولا تغرّيني فقد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي عليك))([10])، وعن الشعبي أيضًا: ((كان أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) ينضحه [بيت المال] ويصلّي فيه))([11])، فنزاهته البيضاء (صلوات الله تعالى عليه) أشبه بضوء شمس بديهية الإدراك كبداهة عدله، شجاعته، ظلامته،... تزينها تركيبة من الأخبار المتواترة الملونة كقوس مطر، تبهج المسترشد وتدله وتحج المتصدي وتحاكمه.
الهوامش:
[1] الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283): 1/68.
[2] والثميلة ما يكون فيه الطعام والشراب من الجوف .
[3] المخمصة: المجاعة.
[4] الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283): 1/68.
[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 41/136.
[6] الكافي: الشيخ الكليني (ت: 329): 8/82.
[7] الغارات: 1/70.
[8] الأمالي، الشيخ الطوسي (ت: 460): 194.
[9] بحار الأنوار: 34/351.
[10] الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 357-358.
[11] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588): 1/364.