الباحث: علي فاضل الخزاعي
الحمد لله معز الحق ومديله، ومذل الباطل ومزيله، المبين أيده، المتين كيده، ذي الحجج البوالغ والنّعم السَّوابغ والنّقم الدّوامغ، معز الحق وناصره ومذل الباطل وقاصره، وأفضل الصَّلَاة والسَّلَام على نبيّه نبيّ الرَّحمة وآله الطَّيِّبين الأطهار (صلوات ربِّي وسلامه عليهم).
كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحوي علوما ومعارف كثيرة، والمتتبع لبعض كلامه (عليه السلام) بخصوص من يرتدي لباس الباطل بثياب الحق ويوهن الناس أنه على الطريق الصحيح يجد أن هذا كله نتيجة الفتن والضلالات والأهواء وحب الدنيا، التي تختلط بالحق، فالباطل بما أنّه ليس له حظ في الحقيقة، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه، ولو في فترة قصيرة، ولكنّه يتوسم عبر مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع، ولذلك تكلم القرآن الكريم بهذا الخصوص فيمن يلبس الحق بالباطل بقوله تعالى: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[1].
وعلى هذا الأساس كان لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام) كلام في غاية الدقة والوصف فيمن يرتدي لباس الباطل بثياب الحق إشارة الى سبب اتّباع الناس للآراء الفاسدة هو امتزاج الباطل بالحق بقوله: (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَ لَو أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ; وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَ مِنْ هذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو «الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى)[2].
وخير دليل على من يلبس لباس الحق وهو في داخله منبع الباطل هو الحاكم الفاسد المتستر بالدين حيث في باطنه ضلال مزخرف بدين الله عز وجل يأمر الناس بآيات الله (عزَّ وجل) وهو لا يفهم منها شيئا فمالوا بالحقّ إلى آرائهم، ونصّبوا أنفسهم للقضاء بين النّاس.
جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلَام): (كم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما يزخرف الدرهم النحاس بالفضة المموهة)[3].
فيجب على الإنسان أن يفكر جيدًا في كل ما يسمع، وأن يكون الفكر رائده إلى الحق أنى كان مصدره. ولا يكون اتباعه لأحد إتباع أعمى، بل عن وعي وانتقاد وتمحيص فهم قد تاهوا بسبب تقديمهم للباطل وتغليبهم إياه وبترك نصرتهم للحقّ، فأضاعوه وتضاعف ضياعهم وتيههم أشد من تيه بني إسرائيل، وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين (عليه السَّلَام):
(أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ، لكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَلَعَمْرِي، لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً، بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَقَطَعْتُمُ الأدْنى، وَوَصَلْتُمُ الأبْعَدَ)[4].
وهؤلاء وغيرهم ممن يتبعون الشيطان في سبيل السلطة والجاه قد أتخذهم ابليس واتباعه شركاء ينطق بألسنتهم وينظر بأعينهم وينطق بالباطل على لسانهم وهؤلاء كالبهيمة لأنهم أضاعوا الحق ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأَمْرِهِمْ مِلاكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ)[5].
فمن شأن الباطل أن يجعل من نفس الإنسان ظلاماً دامساً، ويزرع الحقد والحسد والنفاق والغيبة والنميمة فيها، بخلاف الحق الذي ينير دربها ويبدد ظلامها، والخطير في الأمر أن الباطل لا يأتي على صورته الحقيقية، ولا يدخل بشكله البشع، لأنه في أغلب الأحيان يلبس زيّ الحقّ ويرتدي عباءته، لكي تلتبس علينا الأمور وتشتبه، وهذا ما يسمى بالشبهة في الإسلام، وقد أشار إليها الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) في ما جاء عنه في نهج البلاغة بأنها سميت شبهة لأنها تشبه الحق من حيث الشكل يقول (عليه السلام): (وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ)[6].
هذا الحلّ قد أفاد منه معاوية: مستفيداً من تجربة أسلافه في الادّعاء والتّضليل؛ ولذا وعظه أمير المؤمنين (عليه السلام) في أن ينتفع بالنّظر الفاحص في شواهد الأمور، يقول عليه السلام: (أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الأُمُورِ، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلافِكَ بِادِّعَائِكَ الأَبَاطِيلَ وَاقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَالأَكَاذِيبِ....)[7].
لذلك حتى لا يقع الإنسان بالباطل عليه أن يتفحص مكامن الامور حتى يقف على ما فيها من حق وباطل، ثم يتبع الحق ويختاره فيما يعتقد به وما يفعله، وخصوصاً إذا خلط أهوائه بفهم الحق فإنه قطعاً لن يصل إليه. والحمد لله ربّ العالمين.
الهوامش:
[1] البقرة: 42.
[2] نهج البلاغة: 88.
[3] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي: 381.
[4] نهج البلاغة: 2/79.
[5] نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح): 53.
[6] نهج البلاغة: 81.
[7] المصدر نفسه: 455.