الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين رسولنا الكريم وآله الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
وبعد
تمر علينا في هذه الأيام ذكرى أليمة على قلوبنا، هذه الذكرى التي رحلت فيها سيدة من سيدات البيت النبوي الشريف، هذه السيدة رافقت الركب المقدس، الذي انطلق من مكة إلى كربلاء، وكانت شاهدة على تلك الواقعة العظيمة التي رفعت راية الإسلام عاليا، ليكون التوحيد الإلهي شعار الدماء التي سالت، واستقامة الدين المحمدي الذي خرجت عن جادة طريقه هدفها، فكانت ثورة طف كربلاء، التي انتصر فيها الدم على السيف، هذه السيدة هي أم كلثوم بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) التي كانت مع أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) خطوة بخطوة نحو كربلاء الحرية.
ولدت السيدة أم كلثوم في السنة السادسة للهجرة المباركة في المدينة المنورة([1])، وعاشت حياتها في كنف جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبويها أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام)، وأم كلثوم كنيتها التي عرفت بها، واسمها زينب الصغرى([2]).
عاشت (عليها السلام) مع أبيها (عليه السلام) بعد أن رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الدنيا، ومن ثم لحوق مولاتنا الزهراء (عليها السلام) به سريعا، فقد شهدت هذه المصائب العظيمة وهي طفلة، فذاقت طعم اليتم وهي صغيرة مع إخوتها، وكفلها أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي بنى شخصيتها الشجاعة والكريمة.
ودافعت (سلام الله عليها) عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فحين تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) الخلافة، وخرج عليه الناكثون وساروا إلى قتاله في معركة الجمل، أرسلت عائشة كتابا إلى حفصة تخبرها بما ستقوم به، وأنها ستنتصر، قال ابن أبي الحديد: لمّا نزل عليٌّ عليه السّلام ذا قار، كتَبتْ عائشة إلى حفصة بنت عمر: أمّا بعد، فإنّي أُخبرُكِ أنّ عليّاً قد نزل ذا قار وأقام بها مرعوباً خائفاً؛ لِما بلَغَه مِن عُدّتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر.. إنْ تقدّم عُقِر، وإن تأخّر نُحِر! فَدَعت حفصةُ جواريَ لها يتَغنّينَ ويَضربن بالدفوف، فأمَرتْهُنّ أن يَقُلْنَ في غنائهنّ: ما الخبر، ما الخبر؟! عليٌّ في السفر، كالفرسِ الأشقر، إن تقدّم عُقِر، وإن تأخّر نُحِر! وجَعَلت بناتُ الطُّلَقاء يَدخُلن على حفصة ويجتمعنَ لسماع ذلك الغناء، فبلغ أمَّ كلثوم بنت عليٍّ عليه السّلام ذلك فلبست جلابيبها ودخلت عليهنّ في نسوةٍ متنكّرات، ثمّ أسفَرَتْ عن وجهها.. فلما عَرَفَتْها حفصةُ خَجِلت واستَرجَعت. فقالت أمُّ كلثوم: لئن تَظاهَرتُما عليه منذ اليوم، لقد تَظاهَرتما على أخيه مِن قبلُ فأنزل الله فيكما ما أنزل! وتريد بذلك قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)([3]) فقالت حفصة: كفى رَحِمَكِ الله! وأمَرَتْ بكتابِ عائشة فمُزِّق، واستغفرتِ الله([4])، وقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) بها قبل استشهاده.
وفي طف كربلاء حضرت هذه السيدة الجليلة تلك الحادثة وعاشتها بكل تفاصيلها التي قتل أهلها فيها، ثم مواكبتها لمسير السبايا مع زين العابدين (عليه السلام) وأختها العقيلة زينب(عليه السلام) إلى الكوفة ثم إلى الشام، وخطب خطبتها المشهورة في الكوفة التي قالت في مطلعها: (يا أهل الكوفة سوأة لكم ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نسائه ونكبتموه ، فتبا لكم وسحقا ، ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم وأي وزر على ظهور كم حملتم وأي دماء سفكتموها وأي ريمة أصبتموها وأي صبية سلبتموها وأي أموال انتهبتموها، قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزعت الرحمة من قلوبكم ألا إن حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون)([5])، وتظهر في كلماتها بلاغة أبيها (عليه السلام) فهي ربيبة البيت العلوي الشريف.
ثم لم تلبث طويلا بعد واقعة الطف، إذ توفيت (سلام الله عليها) في المدينة المنورة بعد رجوعها من الشام بأربعة أشهر وعشرة أيام في سنة 61 للهجرة([6]).
الهوامش:
([1]) ينظر: الاستيعاب لابن عبد البَرّ: 5/ 615 ، الطبقات الكبرى لابن سعد: 8 /464.
([2])تنقيح المقال: 3/ 73.
([3]) سورة التحريم: 4.
([4]) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 14/ 13.
([5]) اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس: 91.
([6]) العقيلة والفواطم، حسن الشاكري: 75.