خُطى الخزاعي
الأمل بقيامة المنقذ في يوم ما من أيام الدنيا، والتفاؤل بأنَّ المُخَلَّصين سيتنفسون صُعدائهم وهم يفتحون بين يديه بوابة الحلم الأغلى، فيَلِجُون منها إلى عالم من بركات مُتَنزِّلة عليهم، من فوق رؤوسهم وأخرى نابعةً من تحت أرجلهم، موصدًا (المنقذ) عند آخر فرد من مُستَنقَذيه تلك البوابة على أشلاء الظلم وأنين احتضار المفسدين، معلنًا عن أفول عتمة كابوس السقيفة، وإشراقة عودة من نور الآل، كلُّ هذا ليس من ترف الفكر أو الاِستغراق في أحلام اليقظة، أو جرعة من عقار يتخذه المظلوم الذي لا حيلة له إلَّا بها، فيسكِّن من وجعه ويُخفف من انكساره هاربًا من انتكاسات واقع مرير، مطبِّبًا انهزامه البدني والنفسي بوهم يصيَّره أملًا وتفاؤلًا كما قد قال بعضهم؛ بل إنَّ هذا الأمل وذاك التفاؤل ما هو إلّا حقيقة منتظرَة، غذَّتها عقيدة أصيلة ثبتت نقلًا في بطون بشارات وحي القرآن الكريم، وصريح سنة النبي والآل (صلوات الله عليهم) التي حتَّمت بولادة تلك الحقيقة واقعًا في يوم ما مهما طال الزمان واشتدَّ، وإن أرجف المرجون وشكَّك المرتابون.
عن المولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قال: ((لتعطفنَّ([1]) الدنيا علينا بعد شماسها([2]) عطف الضروس([3]) على ولدها، وتلا عقيب ذلك: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5)))([4])، وعنه أيضًا: ((هي لنا أو فينا هذه الآية: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...}))([5])، وعنه (صلوات الله عليه) قال: في {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...} هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيُعزَّهم ويُذلَّ عدوهم))([6])، وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مبشرًا بظهور المنقذ المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) من أهل بيته قائلًا: ((لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلًا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملؤها عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا))([7])، وأيضًا: ((لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلًا من ولدي، يواطئ اسمه اسمي، يملؤها عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا))([8])، وعن لابدِّية تحقق هذا الأمر وعدم تعلق البداء به مطلقًا([9]) لأجل أنَّه من الميعاد روي عن أبي هاشم الجعفري قال: ((كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: نعم. قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم، فقال: إنّ القائم من الميعاد والله لا يخلف الميعاد))([10])، فيتحصَّل من النقل المتقدِّم أنَّ المهدي الموعود (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) من الذرية الطاهرة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حصرًا، وهو تمام عدة الخلفاء الإثني عشر للرسول (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وإنَّ ظهوره من المحتوم؛ بل من الميعاد الذي لا خلف فيه ولا تبديل.
وأضف إلى ذلك أنَّ الخاتمة لمشروع الخلق بظهور المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) حكم عقلي آخذ بأعناق العقلاء صوب تلك الحقيقة؛ إذ إنَّ الغاية من مشروع الخلق هو هدايتهم التي بها يصلون إلى ذروة تكاملهم البشري، وإن اقتضاء الهداية يشترط وجود هادٍ، وعدم المانع من إيصال هديه إلى الناس، وإلّا سيكون إيجاد الخلق عبثًا؛ والمآل الطبيعي للخلق هو الضلال، وسيكون الخالق (وحاشاه) هو من ألجأهم إلى هذه النتيجة لعدم امدادهم بمتطلبات هدايتهم ومن ثم تكاملهم، وهذا ما سيقدح في حكمة الخالق، الذي ثبت في حقِّه أبتداءً بأنَّه منزه عن فعل ما لا ينبغي، وأنَّ اللطف سيرته مع خلقه، وعليه أصبح وجود هاد بين ظهراني الخلق ضرورة عقلية عضدها النقل مؤكِّدًا ومفصِّلًا، إضافة إلى ذلك لا يقدح في وجود الهادي أن يكون ظاهرًا معروفًا أو غائبًا مغمورًا مادام أن الهداية تتحقق على يديه، وتصل إلى الناس بنحو من الأنحاء، عن أمير المؤمنين مصرِّحًا بذلك في خطبة له من على منبر الكوفة قائلًا: ((اللهمَّ إنَّه لا بُدَّ لك من حجج في أرضك، حجة بعد حجة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلمونهم علمك كيلا يتفرق أتباع أوليائك، ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترقب، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون... اللهم فإنَّي لأعلم أنَّ العلم لا يأزر كله ولا ينقطع مواده، وإنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك، ظاهر ليس بالمطاع، أو خائف مغمور كيلا تبطل حجتك ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم))([11])، فالحجة وإن غاب لابدَّ عند ذاك من سبيل تتحصل منه هدايته وإلّا لاعترى غرض الخالق في الهداية النقض، فكان العلماء العاملين سبيلًا متعينًا في توجيه الناس وهدايتهم في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه)، فعن الإمام الهادي (صلوات الله وسلامه عليه) مشيدًا بدور العلماء قائلًا: ((لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ))([12]).
ونختتم الكلام بعلي الكلام، وفيه أنَّهم (صلوات الله عليهم) فاتحة الهداية وخاتمتها فقال (صلوات الله عليه): ((أيها الناس! إن قريشا أئمة العرب، أبرارها لأبرارها وفجارها لفجارها، ألا! ولابد من رحى تطحن على ضلالة وتدور، فإذا قامت على قلبها طحنت بحدتها، ألا ! إن لطحنيها روقا وروقها حدتها وفلها على الله، ألا! وإني وأبرار عترتي وأهل بيتي أعلم الناس صغارا، وأحلم الناس كبارا، معنا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، إنا أهل الرحمة، وبنا فتحت أبواب الحكمة، وبحكم الله حكمنا، وبعلم الله علمنا، ومن صادق سمعنا، فان تتبعونا تنجوا، وإن تتولوا يعذبكم الله بأيدينا، بنا فكَّ الله ريق الذل من أعناقكم، وبنا يختم لا بكم))([13]).
الهوامش:
[1])) لتعطفن: لتميلن.
[2])) شماسها: انعطافها وإدبارها.
[3])) الضروس: الناقة سيئة الخلق، فهي مع ضيق خلقها تعطف على ولدها.
[4])) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 506.
[5])) الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 566.
[6])) الغيبة: الشيخ الطوسي: (ت: 460 هـ): 184، ح143.
[7])) الإرشاد، الشيخ المفيد (ت: 413 هـ): 2/340.
[8])) المصدر نفسه: 2/340-341.
[9])) البداء: الظهور بعد الخفاء في اللغة، وتصح نسبته لله تعالى في الاصطلاح بمعنى رفع الأمر التكويني الظاهر في الاستمرار وإظهار أمر جديد على خلاف المتوقع، من غير أن يطرأ حدوث في علم الله تعالى أو تبدل، فيكون من جهته تعالى ابداءً واظهارًا للأمر الخفي، ومن جهة الناس ظهور أمر كان خافيًا عنهم أو غير متوقع لديهم. ينظر: تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد (ت: 413 هـ): 65 – 66 .
[10])) الغيبة، ابن أبي زينب النعماني (ت: 380 هـ): 314-315، ح10.
[11])) الكافي: الشيخ الكليني (ت: 329): 1/339، ح13.
[12])) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 1/9-10.
[13])) كنز العمال، المتقي الهندي (ت: 975): 14/592، ح 39679.