الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد
يحفل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بكثير من الأوجه البلاغية، ومنها توظيف الشعر في طيَّات كلامه، إذ يعمد أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواضع عدة إلى الاستشهاد ببيت شعري لأحد الشعراء لبيان موقف معين، ومن المواضع التي وظف فيها الإمام (عليه السلام) الشعر ما جاء في الخطبة الشقشقية، التي قالها (عليه السلام) لبيان حال الخلافة وما جرى فيها من أمور، وسنور الشاهد الشعري مع الكلام السابق له واللاحق، لنبين دقة توظيف هذا البيت الشعري في النص، يقول (عليه السلام): (فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أرى تُرَاثي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الأوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فلان بَعْدَهُ.
ثم تمثل بقول الاعشى:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها في حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ـ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا!)([1]).
فقد تمثل الإمام (عليه السلام) بقول الأعشى، وهذا البيت جزء من قصدية له، فلما كان من الأول أن أوصى بالخلافة لصاحبه، وبعد الصبر على ما جرى منهم وقد شبهه الإمام (عليه السلام) بالصبر على شدة ألم العين، وأنه يرى تراثه (الخلافة) قد نهب من قبلهم، وأنهم لم يكتفوا بأن نهبوه لفترة بل تكاتفوا على استمرار النهب، وأن يوصي أحدهم للآخر، فتمثل لهم بهذا البيت لكونه شبيه لما يجري و(الغرض في تمثله به تباعد ما بينه وبين القوم، لأنهم ظفروا بما قصدوه واشتملوا على ما اعتمدوه ورجعوا بطلابهم. وهو عليه السلام في أثناء ذلك كله محقق من حقه مكد من نصيبه، فالبعد كما تراه منهم بعيد والاختلاف شديد. والاستشهاد بالبيت واقع موقعه ووارد في موضعه، فحيان هذا رجل من بنى حنيفة كان ينادم الأعشى وهو من سادات بنى حنيفة، فأراد ما بعد ما بين يومي على كور المطية ورحلها أدأب وانصب في الهواجر، وبين يومي وادعا منادما لحيان في نعمة وخفض أمن وخصب ، وكذا كان حال علي مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وبعده تغيرت)([2]).
فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعيش في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحسن أحواله، فما أن رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جوار ربه حتى سلبوا حقَّ امير المؤمنين (عليه السلام) ونهبوا تراثه الذي تركه له رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد فسر الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) البيت تفسيرا آخر بقوله: (ومعنى البيت: فرق بعيد بين يوم الشاعر ، وهو على الناقة تسير به في الرمضاء ، ويومه في الظل الوارف يطرب ويشرب مع حيان ، وغرض الإمام من إنشاد البيت بيان الفرق بين خلافته التي جرّت عليه المتاعب كيوم الشاعر على الناقة ، وبين خلافة غيره التي كانت كيوم الشاعر مع حيان المترف)([3]).
وهكذا فتوظيف الشعر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما يكون لبيان حادثة مقاربة ومشابهة لما يتكلم عليه الإمام (عليه السلام) ليقرب الصورة للمتلقي حتى يفهم المراد من هذا الكلام، وفي هذا البيت أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يبين للمتلقين ما كان من أمر الخلافة، وكيف تناوب عليها من لا يستحقها، وما كان من تناقضات في مسيرتهم.
وختاما، نحمد الله جل جلاله على مننه ونشكره على آلائه وفضله، ونسأله أن يرزقنا قرب محمد وآله في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 48.
([2]) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 1/ 124- 125.
([3]) في ظلال نهج البلاغة: 1/ 89.