هشام مكي خضير الطائي
الحمد لله الواحد القهَّار، والصَّلَاة والسَّلَام على نبيّه مُحَمَّد المختار، وآله الغرّ الميامين الأطهَار، واللعن الدائم على أعدائهم الفاسقين الفجَّار، إلى يوم تُشخَص فيه الأبصار، وبعد:
إنَّ من الصَّحابة الخلَّص للنَّبي والوصيّ (عليهما وآلهما أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، والشَّخصيات الموالية لآل البيت النَّبويّ (عليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام): راهب الصحابة الذي أفدى أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) بنفسيه وأولاده معًا (حِجِر بن عدي الكنديّ).
اطلالة على سيرته العطرة:
اسمه ونسبه (رضوان الله تعالى عليه):
هو: حجْرُ بن عديّ بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة الكندي[1]، أبو عبد الرحمن، وهو المعروف بـ(حجر الخير)[2]، وأبوه عدي الأدبر طعن موليا فسميّ الأدبر[3].
وفوده إلى النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) واسلامه:
وفد إلى النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، مع أخيه هانئ بن عدي، وشهد حجر القادسية، وهو الذي افتتح مرج عذراء وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء[4]، وأسلم وهو لم يزل شابّاً، وله صحبة، وأصبح من الوجوه المتألّقة في التَّاريخ الإسلامي، ومن القمم الشاهقة الساطعة في التاريخ الشيعي[5].
ولائه لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام) ومشاهده معه:
فعُدّ من خاصّته (عليه السَّلَام) وأصحابه وشيعته المطيعين، و كان حِجر لم يسكت قطّ أمام قتل الحقّ وإحياء الباطل والرّكون إليه، من هنا ثار على الباطل مع سائر المؤمنين المجاهدين، ولم يألُ جهداً في تحقيق حاكميّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السَّلَام).
اشترك حجر في حروب الإمام (عليه السَّلَام)، وكان في الجمل قائداً على خيّالة كِنْدة[6]، فأنه لما أرسل الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) إلى أهل الكوفة يستنجدهم ليوم الجمل، قام حجر بن عدي فيمن قام فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) وانفروا خفافًا وثقالًا، مروا وأنا أَوَّلكم.
وقال أيضًا: أنه لما نفر الناس إلى الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) حين بعث يستنفرهم من الكوفة ليوم الجمل كان حجر على مذحج والأشعريين، خرج بعده يتبعه رؤوساء الجماعات من الكوفيين كل بأصحابه إلى البصرة ليوم الجمل[7].
وكذلك عند غارة الضحّاك على القطقطانة ودعوة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) الناس للخروج إلى قتاله: قام إليه حِجِر بن عديّ الكندي فقال: (يا أمير المؤمنين، لا قرّب الله منّي إلى الجنّة من لا يحبّ قربك، عليك بعادة الله عندك؛ فإنّ الحقّ منصور، والشهادة أفضل الرياحين، اندب معي الناس المناصحين، وكن لي فئة بكفايتك، والله فئة الإنسان وأهله، إنّ الشيطان لا يفارق قلوب أكثر الناس حتى تفارق أرواحهم أبدانهم)[8]، فتهلّل (عليه السَّلَام) وأثنى على حجر جميلاً، وقال: (لا حرمك الله الشهادة؛ فإنّي أعلم أنّك من رجالها)[9].
وأما في معركة صفين، فبذل نفسه وجاهد مع أمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، فيروى: أنه (رضوان الله تعالى عليه) قام فقال للإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه): (إذا والله يا أمير المؤمنين صحّ جندك، وقلّ فيهم من يغثك، ثم قال (رضوان الله تعالى عليه): يا أمير المؤمنين، نحن بنو الحرب وأهلها الذين نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها، ولنا أعوان ذوو صلاح، وعشيرة ذات عدد، ورأي مجرب وبأس محمود، وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرقت شرقنا وإن غربت غربنا، وما أمرتنا به من أمر فعلناه...
فقال الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): ((أكلّ قومك يرى مثل رأيك؟)) قال: ما رأيت منهم إلَّا حسنًا وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وبحسن الإجابة، فقال له الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) خيرًا) [10]، فكان دوره بارزًا ولا يقل جهادًا عن جهاده في باقي حروب الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام).
وكان نصير الإمام الوفيّ المخلص، والمدافع المجدّ عنه، ولمّا أغار الضحّاك بن قيس على العراق، أمره الإمام (عليه السَّلَام) بصدّه، فهزمه حجر ببطولته وشجاعته، وأجبره على الفرار.
اطّلع حجر على مؤامرة قتل الإمام (عليه السَّلَام) قبل تنفيذها بلحظات، فحاول بكلّ جهده أن يتدارك الأمر فلم يُفلح، واغتمّ لمقتله كثيراً[11].
صدق إيمانه وقوة عقيدته:
كان رجلًا إسلاميّاً، صالحًا، وكثير الصَّلَاة والصّيام، وأنه ما أحدث إلا توضأ وما توضأ إلا وصلى فرضًا كان أو نفلًا حتى إنَّه وصَفُوه بـ(راهب الصَّحابة)، وكان باسلًا شجاعًا، شريفًا، نُبيلًا، وكان معروفاً بالزَّهد، مستجاب الدعوة لِما كان يحمله من روح طاهرة، وقلب سليم، ونقيبة محمودة، وسيرة حميدة[12]، وذو عقيدة قوية لا يتخللها أي شيء يقلل منها، عارفا بالله تعالى عرفان من لا يرتقي إليه أدنى شك، مسلمًا أمره إليه فلا مقام أجل وأعظم من مقامه في تسليم نفسه للقتل صابرًا محتسبًا على البراءة من موالاته لأمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، واختار الموت على البراءة من مولاه، وذلك أعلى درجات الشهادة وأرفعها.
فكان حِجِر (رضوان الله عليه) في تصميمه هذا قدوة حسنة لأصحابه الأبطال الذين صبروا معه على حد السَّيف والقتل ولم يتبرؤوا، ولا مقام أعظم وأرفع من طلبه تقديم ولده وفلذة كبده على السيف والقتل إن كان لا بد من قتله، خوفًا من أن يرى هول السَّيف على عنق أبيه فيرجع عن ولاية إمامه عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)، والبلاء للنفوس كالمحك للمعادن، وهذا إن دلّ على شيء يدل على صلابة ايمانه وقوة عقيدته[13].
فصاحته وبلاغته:
كان حِجِر فصيح اللسان، نافذ الكلام، يتحدّث ببلاغة، ويكشف الحقائق بفصاحة، وآية ذلك كلامه الجميل المتبصّر في تبيان منزلة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)[14].
صحبته للإمام الحَسَن المُجْتَبَى (عليه السَّلَام) ومواقفه معه:
وكان من أصحاب الإمام الحَسَن المُجْتَبَى (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) الغيارى الثابتين، وقد جاش دم غيرته في عروقه حين سمع خبر صلح الإمام الحَسَن المُجْتَبَى (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) مع ابن الطَّلقاء معاوية (لعنه الله تعالى)، فاعترض على الصّلح، فقال له الإمام الحَسَن المُجْتَبَى (صلوات الله تعالى وسلَامه عليه): ((لو كان غيرُك مثلَك لَما أمضيتُه)).
وكان قلبه يتفطّر ألماً من معاوية (لعنه الله تعالى)، وطالما كان يبرأ من هذا الوجه القبيح لحزب الطلقاء الذي تأمّر على المسلمين، ويدعو عليه مع جمع من الشيعة، وهو الحزب الذي كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وصفه بأنّه معلون، وكان حجر بن عدي (رضوان الله تعالى عليه) يقف للدفاع عن العقيدة وأهل البيت (عليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) بلا وجل، ويُعنّف المغيرة الذي كان فرداً في رجسه وقبحه ورذالته، وقد تسلّط على الكوفة في أثناء حكومة الطلقاء، وكان المغيرة (لعنه الله تعالى) يطعن في أمير المؤمنين الإمام عَلِيٍّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) وشيعته[15]، وكان حجر بن عدي له بالمرصاد وكان يقف بوجهه ويردّه عن سبّ الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه).
استشهاده (رضوان الله عليه):
أما أمر استشهاده إن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) قد أخبر به من قبل، وشبّه استشهاده كـ(أصحاب الأخدود)، والذي يُقتل مع ثلة طاهرة موالية لآل البيت النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا ما قاله الإمام عَلِيّ (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) عن خبر استشهاده: (يا أهل العراق، سيقتل سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، منهم حجر بن الأدبر وأصحابه، يقتلهم معاوية بالعذراء من دمشق، كلهم من أهل الكوفة، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود)[16].
وبعد أن ضاق معاوية (لعنه الله) ذرعاً بحِجِر بن عَدِيّ (رضوان الله عليه) وبمواقفه المناصرة لآل بيت النَّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وكشفه الحقائق المزيفة للأمويين، وصلابة إيمانه، وثبات عقيدته، فأمر معاوية اللعين بقتله، فقاموا الجلاوزة من أتباع معاوية (لعنه الله) بتنفيذ أمره بالقتل لحِجِر بن عديّ (رضوان الله عليه) وقاموا بقطع رأسه الشريف، فاستشهد ذلك الرجل الصالح حِجِر بن عَديّ (رحمه الله تعالى) في (مَرْج عذراء) في الشام في سنة (51 ه)، مع ثلّة من رفاقه النجباء، وكان حجر بن عدي أَوَّل من قتل في الاسلام صبرًا[17].
وكان حجر وجيهاً عند النَّاس، وذا شخصيّة محبوبة نافذة، ومنزلة حسنة، فكَبُر عليهم استشهاده، واحتجّوا على معاوية، وقرّعوه على فعله القبيح هذا[18].
تألم الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لاستشهاده:
ترك حجر (رضوان الله عليه) لوعة بقلوب آل البيت (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم)، فكان الإمام الحُسَين (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) ممّن تألّم كثيراً لاستشهاده، واعترض على معاوية (لعنه الله) في رسالة بليغة له أثنى فيها ثناءً بالغاً على حجر، وذكر استفظاعه للظّلم، وذكّر معاوية بنكثه للعهد، وإراقته دم حجر الطَّاهر ظلماً وعدواناً[19]، وبعد ذلك قتل مصعب بن الزبير (لعنه الله تعالى) ولدَيه: (عبيد الله، وعبد الرَّحمن (رضوان الله تعالى عليهم)) صبراً وكانا شيعيان[20].
فما هذا إلا الشيء اليسير الذي قمنا بذكره عن شخصية الصحابي الجليل والموالي حجر بن عدي الكندي (رحمه الله تعالى)، وأن الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلام على مُحَمّدٍ وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين...
الهوامش:
[1] الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: 2/813.
[2] الطبقات الكبرى، ابن سعد: 6/217.
[3] الغارات: 2/809.
[4] ينظر: المصدر نفسه: 2/809.
[5] ينظر: موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، في الكتاب والسنة والتأريخ، محمد الري شهري:12/85.
[6] موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه):12/85.
[7] ينظر: الأعلام من الصحابة والتابعين، الحاج حسين الشاكري: 6/18.
[8] موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه):12/88-89.
[9] المصدر نفسه: 12/89.
[10] نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشَّيخ المحمودي: 2/105- 106، وينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي الهاشمي: 18/36-37.
[11] ينظر: موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه):12/85.
[12] ينظر: المصدر نفسه:12/85.
[13] ينظر: الأعلام من الصحابة والتابعين: 6/16-17.
[14] موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه): 12/86.
[15] ينظر: موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه): 86-87.
[16] شهيد الولاء حجر بن عدي الكندي، السَّيِّد هاشم محمَّد: 118، وينظر: مسند الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، السَّيِّد حَسَن القبانجي: 9/408.
[17] ينظر: شهيد الولاء حجر بن عدي الكندي: 121.
[18] [18] ينظر: موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه): 87.
[19] ينظر: موسوعة الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه):12/ 87-88.
[20] أعيان الشيعة، السَّيِّد مُحسن الأمين: 4/571.