عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
بعد معركة الجمل توجَّه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الشام التي ثار فيها معاوية بن أبي سفيان، معللاً ثورته بالثأر لعثمان بن عفان، وطالباً للقصاص من قتلته، ومعلنًا الحرب ضدَّ الحكومة الشرعية المتمثلة بالإمام علي (عليه السلام)، وهو في الحقيقة يبتغي السلطان والحكم، وقد رفض بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) لمَّا عزله عن ولاية الشام، وبعد أن ألقى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كلَّ الحجج والبراهين على معاوية وأتباعه، وأوضح لهم طريق الصواب وجادة الحق، ولكنَّهم أبوا إلَّا طغياناً وبغياً وأصرُّوا على باطلهم وغيِّهم، وقد أرسل لهم رسلًا ورسائل متعددة، ولمَّا أتمَّ الحجة عليهم قرَّر المسير إليهم فجمع أتباعه من المهاجرين والأنصار ومن اتَّبعهم بإحسان، حتَّى وصل إلى صفين التي عسكر بها قبالة جيش معاوية، وانتظر هناك الباغين عسى أن يفيقوا إلى أمرهم، ولكنَّهم ظلوا في طغيانهم يعمهون، ولمَّا أتمَّ عليهم الحجة بدأ بتعبئة أصحابه فأخرج الألوية وصار يعقدها لقادة جنده، ولمَّا أتمَّ أمير توزيع قادته وكتائبه، واصطفَّ الجيشان للقتال وحان أوان اللقاء بدقِّ طبول الحرب، وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) كعادته قبل كلِّ حربٍ يوصي جنده وأتباعه فيقول لهم: ((لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، فَأَنْتُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ، وَتَرْكِكُمْ قِتَالَهُمْ حُجَّةً أُخْرَى، فَإِذَا هَزَمْتُمُوهُمْ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَكْشِفُوا عَوْرَةً، وَلَا تُمَثِّلُوا بِقَتِيلٍ، وَإِذَا وَصَلْتُمْ إِلَى رِحَالِ الْقَوْمِ فَلَا تَهْتِكُوا سِتْرًا وَلَا تَدْخُلُوا دَارًا، وَلَا تَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلا مَا وَجَدْتُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، وَلَا تُهَيِّجُوا امْرَأَةً بِأَذًى، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ وَصُلَحَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضِعَافُ الْقُوَى وَالْأَنْفُسِ))([1]). وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يرغب أن يلاقي أهل الشام جميعهم بجمع أهل العراق خوفاً على الفريقين من الهلاك، فكان يأمر الرجل ذا الشرف من قادته فيخرج وتخرج معه جماعة من الجند، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة فيقتتلان ما سمح لهم به الوقت ثمَّ ينصرفان.
وهكذا تستمرُّ الحرب بين الحقِّ والباطل وكلَّاً يكتب تاريخه بما يُسطِّر من مواقف، فالرجال إنَّما تُعرف بالمواقف، ولا مواقف أشدُّ من الحرب عندما يشتدُّ رحاها ويستعرُّ شظاها، ثمَّ ما تلبث الأمور إلَّا وتنكشف عن أسود العراق وهم يجولون على أهل الشام، وما يلبث أهل الشام إلَّا أن ينهزموا أمام ليوث العرين، وهنا تتجلَّى إرادة الله تعالى أن لا بُدَّ من امتحان يميز به الطيب من الخبيث، فيرفع أهل الشام المصاحف بإشارة من عمرو بن العاص مع النداء (لا حكم إلَّا لله)، فانطلت هذه الخدعة على ثلة من جيش أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وانشقَّ الجيش ما بين مؤيِّدٍ لمتابعة الحرب التي أذنت بالنصر للحق وأتباعه بعد أن وصل الأبطال إلى فصطاط معاوية، وبين معارض انطلت عليه خدعة عمرو بن العاص فجرَّد حسامه وهجم على إمامه يطلب منه ايقاف الحرب، وهكذا أفل نجم النصر بعد أن لاح عالياً بسبب الرعاع والجهلة وعديمي الإيمان . وآلت الأمور بعد ذلك إلى التحكيم وقد أجبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبوله، وكان من قبل قد نبَّههم وقال لهم أنَّ (شعار لا حكم إلَّا لله): ((كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ))([2])، ولكنَّهم قد استحكم فيهم الشيطان فأصمَّهم وأعماهم عن الحقِّ بعد أن كانوا يسمعون ويبصرون .
ومع الخطأ الفضيع الذي وقع به الخوارج في إيقاف الحرب فإنَّهم وقعوا بخطأ أكبر، وهو الإصرار على أبي موسى الأشعري؛ بوصفه ممثلًا عن أهل العراق في قبالة عمرو بن العاص الذي مثَّل أهل الشام، وقد ابتعدوا بذلك عن جادَّة الحقِّ بعد أن كانوا فيها، وكان نتيجة إصرارهم نزول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى رأيهم بعد أن أوضح لهم فساد اختيارهم وبعدهم عن الصواب، ثمَّ يجتمع الحكمان ويخدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، فيخلع أبو موسى الإمام علي (عليه السلام) ويثبت عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان([3])؛ لتبدأ بعد ذلك صفحة جديدة من ظلامات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي محنة الخوارج .
وهذا وقد التقى الطرفان في صفين (أصحاب أمير المؤمنين وأصحاب معاوية)، وحدثت بينهما معركة كبيرة، راح ضحيتها ستون ألفاً([4])، وقيل: سبعون ألفاً([5])، وقِيلَ: تِسْعُونَ أَلفًا([6])، وقد وصف بعضهم حال القتلى فقال: ((فلقد بلغني أنه كان يُدفن في القبر خمسون إنساناً. قال معمر: فلقد رأيتها مدّ البصر، يعني قبورهم))([7]).
وكان من جملة المقتولين في هذه المعركة خمسة وعشرون بدرياً([8])، وثلاث وستون من أصحاب بيعة الرضوان منهم عمَّار بن ياسر (رضوان الله عليه)([9])، الذي قال فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ((وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ))([10])، وقُتل في هذه المعركة أويس القرني، وهو من التابعين الذين شهد لهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بالجنة([11])، وهؤلاء جميعاً كانوا في صفِّ أمير المؤمنين عَلِيّ (عليه السَّلَام)، فقتلهم أصحاب معاوية بن أبي سفيان بأمره طغيانًا وظلمًا وطمعًا في الدُنيا والسُّلطان.
الرحمة والرضوان لشهداء صفِّين ولجميع الشُّهداء الذين استشهدوا بين يدي أمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، وكذلك لشهداء العقيدة والدِّين على مرِّ العصور.
الهوامش:
([1])وقعة صفين: 203 - 204، تاريخ الرسل والملوك: 5/10 – 11، الكامل في التاريخ: 2/645، كنز الدرر وجامع الغرر: 3/370، نهاية الأرب في فنون الأدب: 2/117، مستدرك نهج البلاغة: 59 ، أعيان الشيعة: 1/484.
([2])نهج البلاغة:، تجارب الأمم وتعاقب الهمم: 1/556، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5/127، الكامل في التاريخ: 2/685 – 686.
([3])الإمامة والسياسة: 1/122 وما بعدها.
([4])ينظر: تاريخ خليفة بن خياط: 1/196، تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي: 10/172.
([5])ينظر: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3/545، بغية الطلب في تاريخ حلب: 1/311.
([6])ينظر: المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2/571
([7])بغية الطلب في تاريخ حلب: 1/312.
([8])ينظر: المستَخرجُ من كُتب النَّاس للتَّذكرة والمستطرف من أحوال الرِّجال للمعرفة: 2/573، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: 3/542، سير أعلام النبلاء: 2/520.
([9])ينظر: تاريخ خليفة بن خياط: 1/196، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 3/1138، سير أعلام النبلاء: 2/526، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة:2/259.
([10]) مسند أحمد بن حنبل: 18/368.
([11])ينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب: 1/312.