بقلم: أ. د. سالم يعقوب السلمي -كلية التربية جامعة البصرة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمجد والرسول المسدد أبي القاسم محمد وآله الأخيار.
أما بعد:
لقد طُبع كلام امير المؤمنين عليه السلام الشريف بطابع غلب عليه تنزيه الله سبحانه وتمجيده وتوحيده، والخوض بشرح العقيدة الحقّة، والشريعة السمحة، والمعارف العالية الدقيقة فيها، واقترن ذلك بذكر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وبيان مكانته ومنزلته ومقامه الشريف الذي بوّأه الله سبحانه في الدار الأولى والآخرة.
أردنا من خلال كلامه الشريف الذي جاء في النهج المبارك أن نقف على تلك المقامات الشريفة للرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله)، وابراز المستوى الرفيع عند الله سبحانه، وكذلك في نفوس الأمة، ودوره في اصلاح الحياة جمعاء، من طريق مستويات الكلام وسبكه وربطه، والدلالات التي يخرج اليها، والتوصيل المتمثل بوسائل الاقناع، وكذلك أردنا أن نحلل الخطاب الشريف في هذه المقامات الرفيعة، فكان منها مقام التنزيه واظهار المنزلة.
فكثيراً ما نجد في كلامه الشريف أنه (عليه السلام) يبتدئ بذكر الله سبحانه من خلال ألفاظ الحمد والثناء، وعبارات التوحيد والتمجيد، والخوض في مسائل العقيدة، ثم يعمد الى اقران ذلك بتنزيه رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله)، وبيان منزلته ومقامه، وتعدّ هذه مقامات ومفاتيح للكلام يفتتح بها (عليه السلام) خطبه ؛ لأنها تنبئ عن حقيقة يظهر فيها تعلق نفس الانسان بخالقه، وأداء شيء من الاستحقاق تجاه خالقه سبحانه، وتجاه صاحب الرسالة الحقة، وفيها طمأنة للمتلقي وتحفيز على اقناعه في الاقبال على ما يقوله وتهيئة نفسه الى ذلك، أو أن هذه المنتجات تعرب عمّا سيأتي من مضمون الكلام الذي سوف يلقاه المنتج.
ترى الدراسات الحجاجية أن المخاطب يكون على قدر كاف من الادراك لحال المتلقي بما عنده من تصورات وأفكار، وبما يصدر عنهم من ردود أفعال لأفكار المتكلم، فيحرص على تضمين ذلك في مطالع الكلام ومقدماته، كما جاء في خطبة الامام (علي بن الحسين) زين العابدين (عليه السلام) في الجامع الأموي بدمشق في مجلس يزيد، وهو في حالة المرض والنصب والتعب والرزية التي هو فيها، فقد فاجأهم بمقدمة اهتزت لها مشاعرهم، وغيّرت أفكارهم، وكاد الأمر ينقلب على يزيد، إذ بدأ خطبته بحمد الله وتنزيهه، وذكر جدّه النبي (صلى الله عليه وآله) والثناء عليه، وذكر ما خصّ الله به أهل بيته الكرام من منزلة وكرامة، وقربى ([1]).
وأمّا في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد منصرفه من صفين فبدأ خطبته بحمد الله وهو أرجح ما وزن، كما جاء في النص عطف على ذلك شهادته بالوحدانية، شهادة خالصة وصفها بأوصاف تطمئن اليها نفسه، ولكي تكتمل الشهادة قرنها بالشهادة في الرسالة الحقّة التي بلّغها (صلى الله عليه وآله)، وجهر بها وتحمل من أجلها ما لم يتحمله الرسل من قبله حتى أظهره على الدين كلّه، وقد آتاه المقام الرفيع، ومنحه الدرجة العالية، وقربّه منه فجعله حبيباً، فجعل ذكره في الشهادة أمراً مفروضاً لا تتم الّا بذكره، ويعلم أمير المؤمنين (عليه السلام) مكانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنزلته عند الله، إذ إنه يقرن طاعته ومعصيته بطاعة الله تعالى ومعصيته، وهذا ما نهج عليه القرآن الكريم في عدّة موطن.
وهذه الشهادة ذات قيمة عليا في العقيدة الاسلامية؛ لأنها عنوان المسلم، وهي التي تميزه من غير المسلم، وهما جملتان أو عبارتان قصيرتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، كما أثر عنه (صلى الله عليه وآله)، قال (عليه السلام) بعد الحمد ((وأشهد أن لا اله الّا الله وحده لا شريك له شهادة ممتحناً إخلاصها، مُعتقَداً مُصاصُهَا...وأشهد أن محمداً عبده ورسوله...))([2]).
لقد افتتح النص الشريف بهاتين الشهادتين العظيمتين بعد منصرفه من صفين، وهو يقارع المارقين المتشككين الذين لم يثبت في صدورهم الايمان، اذ كان ايمانهم على جرف هارٍ.
نجد النص الشريف بعد كل شهادة يسهب في بيان عظمة الخالق، ومهمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمسؤولية التي انتدب من أجلها، وبيان حالة الواقع المعاش ما قبل البعثة الشريفة وما بعدها، وقد فصّل في هذا المقام اظهاراً لعظمة الرسالة المنوطة به، وقد أدّاها على الوجه الاكمل.
أسند فعل الشهادة الى نفسه الشريفة في الشهادتين، شهادة التوحيد والرسالة اذعانا واقرارا منه) عليه السلام) بهما، لأنها أصل كل عمل بِرٍّ، ومبتغى كل خير، وفيهما ارتباط بما يجيء من كلامه الشريف الذي هو تقديس لله سبحانه وتنزيه وتبجيل لرسوله وأهل بيته (عليهم السلام).
اذ يظهر في ضمير المتكلم لهذا الفعل (اشهد) النسبة القوية الظاهرة والواضحة للعائد على الفعل الذي أقبل على ربه بكل جوارحه، بهاتين الشهادتين، لأن الثانية مكملة للأولى، ويتجلى في هذا الاضمار العلاقة التي تلتقي بين المتكلم والمخاطب في عملية الكلام ((ولئن بدا الاضمار في الظاهر عملا ينجزه المتكلم بمفرده فإن للمخاطب فيه دوراً محورياً يتمثل في سابق معرفته بالشيء المضمر))([3]). وفي هذا الضمير المسستتر قرينة معنوية تعمل على نشوء قرينة الارتباط بين الجزأين ([4]).
لقد اقترنت العبودية والرسالة في موضع الشهادة في قوله (عليه السلام) ((واشهد ان محمداً عبده ورسوله)) تشريفاً له (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعظيماً لمقامه الكريم ؛ لأن الله سبحانه اصطفاه من عباده المكرمين، واخذ الميثاق من النبيين، واشهدهم على تصديقه، والايمان برسالته، قال تعالى : (( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم اصري قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين)) [ آل عمران : 81 ].
والخوض بالعبودية تكريم له (صلى الله عليه وآله) وقد وصفه القرآن بذلك منها ((وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)) [البقرة: 23]، وقوله تعالى ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه السميع البصير)) [الإسراء: 1]، وخصت العبودية في التنزيل العزيز بالمكان والمقام العالي للأنبياء (عليهم السلام) وغيرهم([5]).
وبعد ذكر الشهادة الثانية أورد (عليه السلام) الحديث مفصلاً عن مبلّغ الرسالة وصاحبها (صلى الله عليه وآله) مبتدئاً فيها من العام الى الخاص في قوله ((أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع. والضياء اللامع، والأمر الصادع...)) ([6])
فالدين المشهور يمثل الرسالة بكاملها وما يندرج فيها مما هو واقع ضمنها، فبعدما ذكر العام انتقل الى الجزئيات الداخلة فيه.
لقد كانت المهمة المنوطة به (صلى الله عليه وآله) عظيمة وكبيرة، لذا جاء الاختيار للفعل (أرسله) مناسباً لأمر الدين العظيم، والرسالة الاسلامية الخالدة، وهو يختلف عن الفعل (بعث)، وقد ذكر أبو هلال العسكري الفرق بين البعث والإرسال فالأول أقل شأناً يقول ((يجوز أن تبعث الرجل الى الآخر لحاجة تخصه دونك ودون المبعوث إليه كالصبي تبعثه الى المكتب فتقول: بعثته، ولا تقول: أرسلته؛ لأن الإرسال لا يكون الا برسالة وما يجري مجراها))([7]).
نجد النص الشريف مكتنزاً بالمعاني من خلال التكثيف للعبارات التي حصل بها العطف والترادف للأوصاف المتنوعة، كما هو في قوله : (( أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع )) يذكر الدكتور فخر الدين قباوة في تحليل الأدوات
( ال و واو العطف وعدد من حروف الجر ) :(( إنّ الاداة تتضمن معنى بالقوة وهي منفردة، وأن هذا المعنى لا يتجلى الا في التركيب، حيث تبرز حدوده وتتعين معالمه، وهذا يعني أن في مقتضى الحال، اي في ظروف انجاز الكلام، وسياق المقال من المعطيات ما يوجه المحلل الى تعيين تلك الحدود والمعالم... فمن خصائص الأدوات أيضاً ان كثيراً منها يدخل في التركيب، لتشكيل منظومات تعبيرية متناسقة، يؤلف بينها المعنى المشترك زيادة على النظم الكلامي )) ([8]).
إنَّ تراكم هذه العبارات الواصفة للرسالة وصاحبها (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تظهر مكامن أسرار مقامه الشريف، هي وسيلة اقناع للمتلقي الذي يعد عنصراً فاعلاً وحاضراً في عملية ابداع النص، اذ يحاول صاحبه ان ينقله الى الحالة التي يعيشها، أو الى التفاعل مع التجربة التي دفعته، ويرى الدارسون أن في هذا اسلوبا يتبعه المبدع كـ(( قوة ضاغطة يسلطها المتكلم على المخاطب، بحيث يسلبه حرية التصرف ازاء هذه القوة فكأن الاسلوب اصبح بمثابة قائد لفظي للمتلقي.
هذه القوة الضاغطة تتمثل فيها عملية الاقناع بوسائلها العقلية، التي من خلالها يسلم المتلقي قياده للفكرة الموجهة اليه، كما تتمثل فيها عملية الامتاع التي تلون الكلام بكثير من المواصفات العاطفية الوجدانية، بحيث تكون هناك مزاوجة بين الجانب الاقناعي والجانب الامتاعي، كما تتمثل فيها ثالثاً عملية الأثارة التي بها يوقف المبدع المشاعر التي كانت مختزنة عن المتلقي...)) ([9]).
يعمد المنشئ الى توصيل كلامه للمتلقي، ويحرص على بيان مقاصده وغاياته مستفيداً مما يتمتع به من طاقات فكرية، وتجربة في سبر أغوار الحياة، وأداء ذلك بطرق الكلام وأساليبه المتنوعة ([10]).
جاءت العبارات القصيرة الموجزة محملة بالمعاني العميقة الدالة على مضمون رسالته السمحة، إذ تنبئ هذه الاوصاف المتوالية عن تصعيد للمعنى وتوسعة اشعاعاته، تتخللها فروق في معانيها اللغوية، اراد المتكلم اظهاره وابرازه، ومن ثَمّ فإن ذلك يعود على صاحب الدعوة والبعثة المطهرة ( صلى الله عليه وآله وسلم )، من ذلك ما نلحظه في قوله(العلم المأثور، والكتاب المسطور )، فقد فسر في احد قولين إنّه القرآن الكريم، إذ جعله علماً هادياً، والمأثور هو ما يحكى عنه، واستدل على ذلك بقوله بعده (والكتاب المسطور)، ويراد به القران العظيم، والعبارة التالية مؤكدة للأولى ([11]). جاءت هذه الاوصاف على درجة عالية من الدقة والانسجام فيما بين الالفاظ، فقد جاء (السطوع) وصفاً للنور، (واللمعان) وصفاً للضياء، لأن هناك فرقاً في التعبيرين وهو ان الضياء أصل والنور متفرع منه وحاصل بسببه، أورد أبو هلال ((ان الضياء ما يتخلل الهواء من أجزاء النور فيبيض بذلك، والشاهد انهم يقولون ضياء النهار، ولا يقولون نور النهار إلاّ ان يعنوا الشمس، فالنور الجملة التي يتشعب منها...)) ([12]).
ولما كان الضياء بهذا المعنى الكبير وصفه باللمعان، ويراد به البرق ([13]) وكأن لفظ اللمع يحمل اتساعاً وعموماً، لذا استعمل هنا مع الضوء، وكذلك فيه شدة وبأس قال أبو هلال (( إنّ اللمع اصله في البرقة وهي البرق، ثم الأخرى المرة بعد المرة، واللمح مثل اللمع في ذلك الا ان اللمع لا يكون الا من بعيد، هكذا حكاه السكري في تفسير قول امرئ القيس ([14]) :
وتخرج منه لامعات كأنها أكف تلقى الفوز عند المفيض
والبرق أصله فيما يقع به الرعب، ولهذا استعمل في التهدد ([15]).
وورد النور موصوفاً بالسطوع، ويراد به الارتفاع والعلو لهذا النور ((يقال سطع المسك اذا ارتفعت ريحه، وكذلك سطوع الغبار ارتفاعه، وسطوع الصبح كذلك)) ([16]). وجاء لفظ (الصادع) نعتاً للأمر وهو من معنى قوله ((فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)) [ الحجر: 94 ]. والصدع معنى يدل على تأثير بائن في الشيء وهو ((الشق في الشيء الصلب كالزجاجة والحائط وغيرها... ورجل صدع ماض في امره وصدع بالأمر يصدع صدعاً، أصاب به موضعه وجاهر به...)) ([17]).
نجد النص الشريف يقرن هذه الاوصاف المتعلقة بالرسالة بالأداة (ال) نحو (العلم المأثور، والكتاب المسطور، النور الساطع، الضياء اللامع، الامر الصادع) وكأنها أرادت العهد والمعرفة السابقة بهذه الاشياء العظيمة، وتفيد (ال) عدة معان فـ(مثلاً تفيد الجنس والعهد والموصلية والنيابة ولمح الأصل والتزيين والتعظيم... ثم غالباً ما تكون في التركيب ذات وجه واحد من الوجوه )) ([18])، أراد أنها تعطي معنىً معيناً من خلال استعمالها في التركيب.
لعله أراد بوصف الدين بالمشهور، انه معهود به الذيوع والاظهار والشهرة، وفيه اشارة الى قوله تعالى ((هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله )) [ الفتح: 28 ]، وفي القرآن اشارات أخرى الى هذا المعنى، وكذلك اشارات من السنة الشريفة، فيما اثر عنه (صلى الله عليه وآله) في يوم الخندق حينما ضرب بالمعول، فخرج نور قد أضاء الفضاء حتى بانت قصور كسرى وقيصر.
نجد الوضوح بادياً، بيّناً في التعبير المتعلق بالرسالة الشريفة، من خلال الأوصاف والنعوت التي تجلى فيها المعنى بأبهى صوره، كما تلحظ الدقة في الاختيار، مما يكسب الكلام قوة وتوكيداً، فالمسطور مثلا لا يكون الا للمكتوب أو الكتاب، لذا اجتمعت في هذا اللفظ (المسطور) الصفة والتوكيد، فأصبح في العبارة تلازم بين اللفظين مما جعلها علماً للقرآن الكريم، وكأنه (عليه السلام) اقتبسها من قوله تعالى: ((وكتاب مسطور" في رق منشور)) [ الطور: 2-3 ].
ومن هذا يظهر التلاؤم الواضح، والتلازم المناسب في استعمال اللمعان للضياء، والسطوع للنور؛ لأن الأول أقوى وأشد من الثاني، وهذا ما أفصح عنه القرآن بقوله (( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا...)) [ يونس : 5 ]، قال الزمخشري (( والضياء أقوى من النور )) ([19]).
نجد النص في غاية من الترابط والتناسب، فبعدما ساق هذه العبارات من المنعوتات، ونعوتها، جاء ما بعده من الكلام تعليلاً وسبباً له، فالصدع هو الأمر العظيم، وهو أمر الدين والرسالة، وبعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا إنما هو ((ازاحة للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات)) ([20]). اذ اننا نلمح العلة ظاهرة من خلال استعمال المفعول لأجله في قوله (ازاحة، واحتجاجاً، وتحذيراً وتخويفاً ) وهذه قرينة صريحة وظاهرة من أجل تقوية العلة ؛ لأنه (( يدل على علة حدوث الفعل، وعلى تقيده بها )) ([21]) ((وعلاقة السببية احدى علاقات الارتباط المنطقي بين المعاني، ويقتضي سياق الجملة من المتكلم احيانا ان يلجأ الى هذه العلاقة لتكون معيناً له على بيان سبب وقوع الحدث... ومن هنا انشأت العربية علاقة ارتباط بين الفعل والمفعول لأجله المنصوب بطريق علاقة السببية نحو قوله تعالى ((ولا تقتلوا اولادكم خشية املاق )) [ الاسراء : 31 ] وحرصت على أن يكون المفعول لأجله مصدراً ؛ لأنّ المصدر دال على الحدث المجرد من اي معنى آخر )) ([22]) وقوله (عليه السلام) (ازاحة للشبهات)، فقد اكتفى بذكر الازاحة لأقل الاشياء ليمتنع ويرتدع من الاقدام عن الاكبر والأعظم، لأن الشبهة هي ما اختلط فيها الحق بالباطل، اذ هي ليس بحق محض، ولا بباطل محض، فإذا كانت الازالة لما هو متذبذب، فما كان أكثر وأعظم منه فهو مدفوع وصولاً لليقين الذي لا شبهة فيه، وأما قوله (عليه السلام) (واحتجاجاً بالبينات ) فهي الواضحات الدالة على الحق والحقيقة، فإنه (صلى الله عليه وآله) اتخذها حجة ودليلاً وبرهانا يرتكز عليها دينه الحنيف. وقوله ((وتحذيراً بالآيات وتخويفاً بالمثلات)) فقد بدأ باقل درجة من الوعد والوعيد ؛ لأن التحذير هو أمر دون التخويف فهو دالّ على التنبيه والانذار بآيات الله البينة الواضحة، والتخويف هو الحالة الشديدة والمضطربة التي تعتري المخلوق ولعلها أشدّ من سابقتها وهو تهديد بالعقوبة، (والمثلات) جمع (مثلة)، قال تعالى: (( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات )) [ الرعد : 6 ]([23]) وفسرت لفظة المثلات انها (( النقمات الواحدة (مثلة)... والمثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالاً يرتدع به غيره كالنَّكال ))([24]).
جاءت الالفاظ التي هي من لوازم الرسالة وهي (الدين، والعلم، والكتاب)، واضحة دالة على السمو، لإتمام معناها بالوصف المشتق (اسم المفعول) الواقع صفة لها وهو (المشهور، المأثور، المسطور ). أما الوصف المشتق في ألفاظ (الساطع، اللامع، الصادع). فقد عاد الحدث فيها على الاسم السابق لها، وقيامه بها؛ لأنّ فيها فاعلاً يعود عليها.
جاءت العبارة في هذا النص الشريف متسقة متناسقة، يصدع التناغم في موسيقاها، ونلحظ فيها تقسيمات لألفاظها وعباراتها، إذ انها جاءت في أعلى درجات الصياغة اللفظية التي تجذب النفس، وتطرب السمع وكأنها تجري في روي ونسق في أصواتها كحرف الراء الذي انتهت به عدد من الالفاظ كـ(المشهور، المأثور، المسطور )، وحرف العين كما في (الساطع، اللامع، المسطور )، وحرف التاء كما في (الشبهات، البينات... )، وقد شغل هذا مساحة من النص الشريف إذ شاعت حروف مثل: (النون، اللام، الميم، والهاء ) وغيرها من الحروف من جهة شكل الألفاظ التي تسترعي السمع وتستهويه، وتجذبه لما فيها من ايقاع مؤثر. يلمح في هذه العبارات مجيء الاسماء مقترنة بـ(ال)، مثل الدين، العلم، الكتاب، النور، الضياء، الشبهات، الامان، المثلات، الفجر، الأمر، المخرج...). و(ال) هذه إنما هي (ال) العهدية لعلم المتكلم بحال المخاطب إنه على معرفة باللفظ الداخلة عليه؛ ولأنه يدركه ولم يجهله، وقد عمد اليها ليحيل المتلقي عليها، ويميل فيها الى الاختصار والاختزال في المنظم، فيحرك فكره ويجعله يجول في تصورها وادراك قيمتها، وليجعل منه مشاركاً في نصه وكلامه وملمّاً بفكرته ([25]).
الهوامش:
([1]) الخطاب الحجاجي لأهل البيت (عليهم السلام) في كتاب الاحتجاج – دراسة تداولية 42.
([2]) شرح نهج البلاغة 1/139-142.
([3]) اصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية (تأسيس نحو النص): 2/1109.
([4]) نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية: 155.
([5]) ينظر الكهف: 1، مريم: 2، البقرة: 221، ق:8.
([6]) شرح نهج البلاغة: 1/142.
( [7]) الفروق اللغوية: 299.
([8]) التحليل النحوي أصوله وأدلته: 259.
([9]) البلاغة والأسلوبية: 235.
([10]) ينظر: نظرات في قضايا اللغة العربية: 58-59.
([11]) شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد: 142.
([12]) الفروق اللغوية: 348.
([13]) ديوان الأدب (فعل يفعل): 364، وينظر: اللسان (لمع): 8/324، الفروق اللغوية: 350.
([14]) ديوان امرئ القيس: 72.
([15]) الفروق اللغوية: 350.
([16]) ديوان الادب (فعل - يفعل): 363.
([17]) اللسان (صدع): 8/194-196.
([18]) التحليل النحوي، أصوله وأدلته: 211.
([19]) الكشاف: 2/314.
([20]) شرح نهج البلاغة: 1/142.
([21]) بناء الجملة العربية: 61.
([22]) نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية: 176-177.
([23]) شرح نهج البلاغة: 1/142.
([24]) عمدة الحفاظ: 4/70 ( مثل).
[25] لمزيد من الاطلاع ينظر: مجلة المبين المحكمة -السنة الرابعة، العدد التاسع، ربيع الأول 1441هـ، حزيران 2019م.