بقلم: د. خليل منصور العريَّض - البحرين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
اسبغ علي عليه السلام على الأنبياء صفات أخلاقية هي الغاية في مثاليتها ـ لكونها كما يرى، القدرة المحتذاة، فاختيارهم كهداة للبشرية من لدن الله سبحانه وتعالى، جعله يتعهدهم برعايته ويحيطهم بعنايته، منذ نشأتهم الأولى، وفي ذلك يقول علي عليه السلام «استودعهم في افضل مستودع، واقرهم في خير مستقر، تتناسخهم كرائم الاصلاب، إلى مطهرات الارحام، كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف»([1])فهم على هذا الحال، منزهون عن كل الدنايا التي تسيء إلى اصولهم، محاطون برعاية الأهمية في مختلف اطوار حياتهم التكوينية، فأصالهم معرقة في الكرم وطيب العنصر، يتنقلون في الاجيال حتى يبعثهم الله سبحانه، وتستمر رعايته لهم في الدنيا منذ يوم ولادة كل واحد منهم فيزودهم بآداب الهية، واخلاق قدسية، تقوم الملائكة برعايتها، وتعهدها، وفي ذلك يقول علي عليه السلام بشأن رعاية الله للرسول صلى الله عليه وآله «لقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن ان كان فطيما، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره»([2])، وهو ما يمكن ان نطلق عليه تجوزا معنى العصمة، لأن التربية المرعية من قبل الملائكة لا بد ان تحيط صاحبها بسياج من الأخلاق التي تحول بينه وبين مواقعة الخطأ منذ نشأته الأولى وعلى ذلك السبيل يمكن الاعتقاد بقول علي عليه السلام بتنزيه الأنبياء.
كما إن الأخلاق المتناهية في سموها ومثاليتها، تردع نفوس أولئك النخبة من البشر عن الرضوخ إلى الاهواء والجري وراء اللذات، فالزهد في كل ما هو زائل من نعيم الدنيا من أبرز سمات الأنبياء الأخلاقية كما يرى علي عليه السلام ، فموسى عليه السلام «كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزالة وتشذب لحمه»([3]) كما بلغ الزهد بنبي الله داود إلى درجة انه «كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: ايكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها»([4])اما عيسى عليه السلام فقد «كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن ويأكل الجشب»([5]) اما الرسول صلى الله عليه وآله فقد «قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا»([6]) وهذا التناهي في الزهد لم يكن ـ كما يرى علي عليه السلام ـ تسليماً لأمر واقع، لأنه اختيار فيه تثبيت لحقيقة رسالاتهم، وصدق اخلاصهم، لأنه «لو اراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم، ان يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان، ومغارس الجنان لفعل»([7]) ولو انه سبحانه هيأ لهم كل ذلك النعيم الدنيوي، ومنحهم السلطة والهيمنة على الناس، لبطل الثواب والعقاب، لأنهم سيستخدمون الرهبة والرعبة في تثبيت دعائم رسالاتهم، وهذا يتنافى وجوهر الإيمان الفطري المبني على الاقتناع الذاتي، البعيد عن أية تأثيرات خارجية. فالزهد والقناعة وقوة الإرادة، كل ذلك من دلائل النبوة، كما يرى علي عليه السلام، وفي ذلك يقول ان «الله سبحانه جعل رسله اولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الاعين من حالاتهم، مع قناعة تملا القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الابصار والاسماع اذى»([8]).([9]).
الهوامش:
([1]) خطب ـ 93 ـ فقرة 2.
([2]) خطب ـ 240 ـ فقرة 26.
([3]) خطب ـ 11 فقرة 6، 7، 8، 9، الصفاق ـ على وزن كتاب: هو الغشاء الرقيق الذي تحت الجلد، والتشذب، التفرق.
([4]) السابق، والسفائف جمع سفيفة: منسوجات الخوص.
([5]) السابق، والجشب بكسر الشين: الغليظ الخشن.
([6]) السابق، ويقضم يأكل على أطراف اسنانه، أي لم يملأ منها فمه، وأهضم على وزن افعل من الهضم، وهو خمص البطن أي خلوها وانطباقها، والكشح، ما بين الخاصرتين إلى الضلع الخلفي، واخمصهم: اخواهم واخلاهم.
([7]) خطب 240 ـ فقرة 11.
([8]) المصدر السابق.
([9]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص520 – 522.