بقلم: د. حيدر هادي الشيباني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فإن أسماء الأفعال من الموضوعات اللغوية التي شغلت عناية الكثيرين من علماء العربية، قدماء ومحدثين ومعاصرين، إذ لم يخلُ كتاب في العربية قدم من ذكرها.
والمراد بأسماء الأفعال المُراد بأسماء الأفعال أنَّها ألفاظ «وُضِعت لتدل على صيغ الأفعال، كما تدلُّ الأسماء على مسمياتها»([1]).
أمّا دلالتُها فقد ذكر كثير من اللغويين أنَّها تفيد المبالغة، فضلاً عن إفادتها الاتِّساع والاختصار، قال ابن السَّرَّاج: «فجميع هذه الأسماء التي سُميَ بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة، ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كفَت عنها»([2])، وأكد ذلك ابن جني مفسِّرًا، فقال: «وذلك أنك في المبالغة لا بد أن تترك موضعًا إلى موضع، إمّا لفظًا إلى لفظ، وإمّا جنسًا إلى جنس»([3])، وإلى هذا ذهب ابن يعيش([4])، والرضي الاسترابادي([5]).
من هنا نجدها وردت في كتاب نهج البلاغة، وهي على النحو الآتي:
أولاً: أفٌ:
اسم فعل بمعنى (تضجَّرت) منقولٌ من صوت([6])، وقيل: هو صوت([7]) أمّا أصله فقد جاء في اللغة: «أصل الأُفِّ: كلُّ مستقذر من وسخٍ وقلامة ظفرٍ وما يجري مجراها، ويُقال ذلك لكل مُستخف به استقذارًا له، نحو: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله﴾ [الأنبياء/ من الآية:67] وقد أفَّفْتَ لكذا، إذا قلتَ ذلك استقذارًا له ومنه قيل للضجر من استقذار شيء: أفّفَ فلان»([8]).
و(أُفٍّ) بالتنوين أبلغُ في التعبير من غير المنوَّن؛ إذ هو يُعبِّر عن ضجرٍ بلغ في نفس صاحبه درجةً يحتاج للترفيه عنها، لطول صوته([9]).
وبحسب قوله تعالى: ﴿فلا تَقُل لَهمُا أُفٍّ) [الإسراء/ من الآية:23]، فإنَّه أدنى حالات الضجر؛ لأنَّ المراد في الآية الكريمة - والله أعلم - هو لفظ (أفٍّ) المؤلَّف من (الهمزة) و(الفاء) المشددة، الذي يمكن أنْ يصدر من فم الابن وهو يتضجر من طلب أحد والديه من القيام بعملٍ ما، أو عند توجيهه بشيءٍ ما، وهي كلمة مؤلَّفة من هذين الصوتين تدل على رفض لافظها ما يُراد منه، أو استنكاره لما طُلب منه أو سخريته مما طلب منه، وأعتقد أنَّه لو وُجدَت كلمةُ تضجُّرٍ أدنى منها دلالةً لذُكرت ونُهي عنها، فالمُراد ترك أدنى صور الضجر والرفض لمطلب الأبوين.
ورد هذا البناء في خطبةٍ له (عليه السلام) في استنفار الناس إلى أهل الشام، بعد أنْ لم يستجيبوا له، ولم يمتثلوا أمره، قال فيها: «أُفٍّ لكم، لقد سَئِمتُ عتابَكم»([10]).
فيما مرَّ (أُفٍّ) وهو اسم فعل بمعنى التضجر. يشير النص إلى أنَّ الإمام (عليه السلام) أراد استنفار أهل الكوفة لملاقاة أهل الشام الذين كانوا كثيرًا ما يشنُّون الغارة تلو الغارة على المناطق الإسلامية، ويسفكون دماء المسلمين، وينهبون ثرواتهم، غير أنَّ أهل الكوفة لم يستجيبوا للإمام وكانوا كثيرًا ما يتثاقلون عن دعوته([11])، لذا قابَلَهم بالتأنيب والتضجُّر بما لا يرتضيه من أفعالهم([12])، ولم يحصل هذا - بالطبع - إلا بعد أنْ سَئِم الإمام عتابهم، والسأم «المَلالة مما يكثرُ لبثه»([13])، وهذا شأن أسماء الأفعال؛ فهي تأتي للكشف والإفصاح عن مواقف انفعاليَّة.
وصورة تمرُّد أهل الكوفة على الإمام (عليه السلام) وتضجُّره الشديد من أفعالهم شبيهة إلى حد كبير بقصة النبي إبراهيم (عليه السلام) التي عرضها لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَّكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 66-67]
فقوله تعالى: ﴿أُفٍّ لَّكم﴾ يصوِّر لنا تضجُّر النبي إبراهيم (عليه السلام) لِمَا رأى من قومه من إصرار وثبات على عبادة الأصنام، بعد انقطاع العذر ووضوح الحق([14]) ([15]).
الهوامش:
([1]) شرح المفصل: 4/25.
([2]) الأصول في النحو: 2/134.
([3]) الخصائص: 3/46.
([4]) ينظر: شرح المفصل: 4/25.
([5]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/89.
([6]) ينظر: شرح الرضي على الكافية: 3/83 و85 و97.
([7]) ينظر: الكشاف: 3/523.
([8]) مفردات ألفاظ القرآن: 79 (أف).
([9]) ينظر: اسم الفعل دراسة وطريقة تيسير, د. سيلم النعيمي, مجلة المجمع العلمي العراقي, المجلد السادس عشر:68.
([10]) شرح (ابن أبي الحديد): 2/189, وجاء هذا البناء في موضع آخر:8/104.
([11]) ينظر: نفحات الولاية: 2/205.
([12]) ينظر: شرح (البحراني): 2/78.
([13]) مفردات ألفاظ القرآن: 438 (سأم).
([14]) ينظر: الكشاف: 2/577, وروح المعاني في تفسير القران العظيم والسبع المثاني, الآلوسي: 17/67.
[15] لمزيد من الاطلاع ينظر: ابنية المبالغة وأنماطها في نهج البلاغة، حيدر هادي الشيباني، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص121 - 126.