من آثار قضاء الإمام علي عليه السلام في الفقه الجنائي على بناء الأساس السياسي في الدولة: أولاً: أثر تطبيق حد الحرابة

مقالات وبحوث

من آثار قضاء الإمام علي عليه السلام في الفقه الجنائي على بناء الأساس السياسي في الدولة: أولاً: أثر تطبيق حد الحرابة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 28-04-2021

بقلم: م. م. وئام علي القره غولي

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على المحمود الصادق الأمين المنتجب المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهداة المهديين.
وبعد:
إنّ مِن أهم الأهداف التي تُنشدها الدّولة الإسلامية في سياستِها الداخلية بسط الأمن العام وحفظ أرواح النّاس وأعراضهم وأموالهم مِن الباغين والمعتدين[1]، وقَد أنزلت الشّريعة عقوبات رادعة لهؤلاء المُعتدين، وسعى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) إلى تطبيقها في قضائه، مما جعلَ لها أثرا في تحقيقِ الاستقرار والأمن العام في المُجتمع، لذا سنتناولُ في هذا المَطلب أثر تطبيق حد الحرابة، وأثر تطبيق حد الرّدة، ومِن ثمّ أثر تطبيق حد البغي.

الفرع الأول: أثر تطبيق حد الحرابة

تُعدّ جريمةِ الحِرابة مِن أخطرِ الجّرائم الماسّة بأمنِ المُجتمع واستقراره، وقد فَرضت الشّريعة الإسلامية عليها عقوبة صارمة لكلّ مَن يتعدى على أمنِ النّاس واستقرارهم سواء أكانَ بالنّهب أو السّلب، أو بالاعتداءِ على الأرواحِ والأعراض[2]، ومصدر هذه العقوبات قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[3]، وما يتضح من الآية الكريمة أن ((العدوان المُمارس ضد البشريّة بمثابةِ إعلان الحَرب ومُمارسة العدوان ضد الله ورسوله، وهذه نقطة تُبيّن بل تثبت مدى اهتمام الإسلام العظيم بحقوقِ البشر، ورعاية أمنهم وسلامتهم))[4].
وكذلك بيّنت الآية الكريمة جزاء من يُشيع الفَساد في الأرضِ بأنّه يُعاقب بأحد الأمور التالية إما ((القتل، أو الصّلب، أو القَطع مُخالفا، أو النفي))[5]، وقد طبّقَ أمير المؤمنين (عليه السلام) جميع هذه العُقوبات في دولتهِ وكانَ (عليه السلام) حاسما في تنفيذِها، فقد روي أنّه (عليه السلام) قَضى بعقوبةِ القتلِ فيمن ارهب واحرق دار قوم وسرقهم[6].
وقد أشارَ (عليه السلام) إلى ضرورةِ إنزال عُقوبة القتل بالمحارب، وذلك بما رواه الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قالَ: قالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): ((اللصّ المحارب فاقتله فما أصابك فدمه في عنقي))[7].
وكذلك ((قَضى (عليه السلام) بعقوبةِ القتل في الذي يقطعُ على المُسلمين ويقتلهم ويأخذ مالهم أن يقتل ويصلب، وقضى (عليه السلام) في الذي يأخذ المال ولا يقتل أن تقطع يده ورجله من خلاف، وقضى (عليه السلام) في الذي لا يقتل ولا يأخذ المال ولا يؤذي أن ينفى من بلدة إلى بلدة حتى يموت..)) [8]، وقد نَهى (عليه السلام) في كثيرٍ مِن أحاديثهِ عَن آثار الخَوف والذّعر في نفوسِ المُسلمين إذ يقول (عليه السلام ): ((لا يحل لمسلمٍ أن يروع مُسلما))[9] .

ويظهر للبحث أنّ الإمامَ علي (عليه السلام) نَفذّ العُقوبات بالمُحاربين بما يتناسبُ مع ما ارتكبوه من جرمٍ، وقد بيّنَ عِلة ذلك الإمامان الصادق والباقر بقولهما (عليهما السلام): ((إنّما جزاء المُحارب على قدرِ استحقاقه، فإن قتل فجزاؤه أن يقتل، وإن قتلَ وأخذ المال، فجزاؤه أن يقتل ويصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده ورجله من خلاف، وإن أخاف السبيل عليه النفي لا غير))[10].
وبهذا التناسب في أنزال العقوبة سوف تُحقق العدالة التي على أساسِها تتوازنُ المُجتمعات، فالمحارب أو قاطع الطّريق إذا علم أنّه حين يقتل أو يسلب فإنّهُ سيعاقب بعقوبةٍ صارمة تناسبُ ما اقترفه من ذنبٍ، فإنّه يمتنعُ عن ارتكابِ الجّريمة،  فقاطع الطّريق الذي يقتل مثلا فإن الذي يدفعه إلى القتلِ غريزة تنازع البقاء بقتلِ غيره ليبقى هو، فإذا علم أنّه حين يقتل غيره إنّما يقتلُ نفسه أيضا امتنع في الغالبِ عَن القتل[11]، وبهذا تَكون العُقوبة ((خير رادع لأولئك المجرمين، وهي تحول دون اعتداء الأفراد الأشقياء والأشرار القتلة على أرواح الناس الأبرياء وأموالهم وأعراضهم))[12].
وكانَ لتنفيذِ هذا الحدّ في قضاءِ أمير المؤمنين (عليه السلام) أثر كبير في تحقيقِ الرّدع والزّجر في المُجتمعِ، ويمكن أن يلاحظ ذلكَ من قلةِ جرائم الحِرابة المُرتكبة في دولتهِ (عليه السلام).
وإضافة إلى ما يحدثه حد الحرابة من زجرٍ وردع في المُجتمع، فإنّ له أثرًا في إصلاح المُجرمين وتوبتهم، فقد ذكر السيوطي عن الشعبي أنّه قال: ((كانَ حارثة بن بدر التميمي مِنْ أهل البصرة قد أفسدَ في الأرضَ وحاربَ، وكلّم رجالا مِن قُريش أنْ يستأمنوا له عليا فأبوا، فأتى سعيد بن قيس الهمذاني فأتى عليًا، فقالَ: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يُحاربونَ الله ورسوله ويسعونَ في الأرضِ فَسادا؟ قالَ أن يقتلوا، أو يصلبوا أو تقطعَ أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا مِن الأرض، ثمّ قال: إلا الذين تابوا مِن أن تقدروا عليهم فقالَ سعيد: وإن كانَ حارثة بن بدر؟ فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاءَ تائبا فهو آمن؟ قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتبَ له أمانا))[13].
ويكون أمير المؤمنين (عليه السلام) بتطبيقهِ ذلك الحدّ الصّارم قد قطعَ دابر المُفسدين وحافظَ على أرواحِ النّاس وأعراضهم ومُمتلكاتهم وصيانتها من الإتلاف العدواني، الذي مِن شأنِه زعزعة الأمن والاستقرار في المُجتمع. ([14]).

الهوامش:
[1] ينظر: النظام السياسي في الإسلام: القرشي، ص 270.
[2] أثار تطبيق الشريعة الإسلامية: محمد بن عبد الله الزاحم، دار المنار، القاهرة، ط2، 1412هـ، ص 119.
[3] سورة المائدة: الآية 33.
[4] الأمثل: الشيرازي، 3/691.
[5] ينظر: شرائع الإسلام: المحقق الحلي، 4/959- شرح اللمعة: الشهيد الثاني،9/290- الوسيلة: ابن حمزة الطوسي، ص 206.
[6] تهذيب الأحكام: الطوسي،10/231- من لايحضره الفقيه: الصدوق، 4/162.
[7] الكافي: الكليني، 5/51- جامع أحاديث الشيعة: البروجردي،13/227.  
[8] ينظر: عجائب أحكام أمير المؤمنين (عليه السلام): محسن الأمين، تحقيق فارس حسون كريم، مركز الغدير، د ط، 1420هـ، ص 94.
[9] وسائل الشيعة: الحر العاملي، 12/272- جامع أحاديث الشيعة: البروجردي، 16/358.
[10] مجمع البيان في تفسير القرآن: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق لجنة من العلماء والمحققين، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، د ت، 3/325.
[11] ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي: عبد القادر عودة، 1/656.
[12] أمير المؤمنين (عليه السلام) والإستراتيجية الأمنية ابان حكومته: الغفاري، ص 226.
[13] الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت، د ط، د ت، 2/279- النفي والتغريب في مصادر التشريع الإسلامي: نجم الدين الطبسي، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط1، 1416هـ، ص 378.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفقه الجنائي في قضاء الإمام علي عليه السلام وأثره في بناء الدولة الإسلامية، الدكتورة ناهدة الغالبي، الباحثة وئام القره غولي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 219-223.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2997 Seconds