بقلم: السيد نبيل الحسني الكربلائي.
«الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ، ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ، ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ»[1]، وصلواتهُ التامات الزاكيات على حبيبه محمد، «عَبْدُه ورَسُولُه الصَّفِيُّ، وأَمِينُه الرَّضِيُّ، وعلى أهلِ بيته «أَسَاسُ الدِّينِ وعِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ، وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ»[2]، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
إنّ الاعتقاد بالعين والرقى والسحر ومكونات نشوئه عبر العقيدة بالشياطين والجن قبل الإسلام وبعده ، له من العوامل المؤثرة في نمط تفكير الإنسان العربي ، لاسيما إذا نظرنا أيضا إلى اعتناق بعض القبائل العربية لليهودية والنصرانية التي أعطت حيزاً لا بأس به للاعتقاد بالجن والشياطين.
فالشيطان في الديانة اليهودية يظهر على (أنه كائن روحي شرّير، لكن ملامح هذا الكائن لم تتوضح إلا ببطء شديد، ويبدو أن النصوص الكتابية هي التي تأثرت بالمعتقدات الشعبية.
والعهد القديم، يقر بوجود مثل هذه الكائنات وأعمالها ونشاطها، وهو بالتالي يساير الاعتقادات الشعبية التي تملأ المناطق الخربة والجهات المقفرة بالحيوانات الموحشة والكائنات الغامضة مثل الأشاعر، والغول، وهي تسكن الأماكن الملعونة، مثل بابل، أو بلاد آدوم.
وفي العهد القديم تختلط مهمة الشيطان بمهمة الملاك، وكأن الذهنية القديمة لا تميز بين الشر والخير؛ فالله، يهوه، يرسل الملاك على مصر وعلى أورشيلم أو على الجيوش الآشورية.
إلا أنه بعد السبي، يبدو التمييز واضحاً بين عالم الملائكة وعالم الشياطين، فالشيطان يعذب الإنسان والملاك يعذب الشيطان)[3].
وهذا التقارب في الفكرة بين أن الشيطان مصدر الشر وأصل الضرر بالإنسان، فلذا فهو بحاجة إلى قوة أخرى يستعين بها على الشياطين، فالصينيون كانوا يستعينون بالأشجار والممرات الملتوية، واليهود يستعينون بتجنب الأماكن المهجورة والمحال المقفرة التي تسكنها الحيوانات المتوحشة التي تعكس وجود هذه الأرواح الشريرة، ثم نجد أن هذه العقيدة تتناسب مع المتغيرات البيئية والاجتماعية لتخرج بفكرة جديدة تنص على أن الشيطان يعذب الإنسان والملك يعذب الشيطان مما يدعو إلى الاستعانة بالملائكة للتغلب على هذه القوى الشريرة.
ولعل هذا المبدأ كان هو المحور في تبلور العقيدة بالشياطين والجن لدى المسيحيين الذين وجدوا أن السيد المسيح عليه السلام هو البطل الوحيد الذي يستطيع أن ينتصر على هذه الشرور؛ فالجنون ما هو إلا نتيجة لتحكم هذه القوى الشريرة بالإنسان فهي التي مسته بشرها فسلبته عقله، ليكون تبعاً لها لا يدرك ما يقول، ولعل قوله وصرعاته واختلاجاته إنما هي رسائل لتلك الأصوات والتناغمات الصوتية التي يسمعها من الجن فيرددها دون وعي منه.
ولو تتبع الباحث أو القارئ ما قيل في أدبيات المعتقدات المسيحية لاتضح لديه نشأة الاعتقاد بأن الجنون هو عبارة عن الجن (الساكنين في رؤوس الممسوسين، كممسوس كفرنا حوم، وممسوس الجراسيين، وابنة المرأة الكنعانية، والصبي المصروع، والممسوس الأخرس، ومريم المجدلية)[4].
إذن:
تتبلور الفكرة لدى الإنسان العربي في الاعتقاد بوجود الشياطين والجن ومقدرتها على إيذائه به من واقع ملموس، وآخر موروث، وثالث منقول ووافد إليه من أمم وشعوب أخرى لتجتمع هذه المعطيات الفكرية لديه فتكون عنده عقيدة راسخة في هذه المخلوقات التي يبدو أنه احتار كيف يتعامل معها، وذلك لوجود تأثيرها على الإنسان وهو أمر لا يمكن نكرانه لاسيما وقد كشفت الآيات والأحاديث الشريفة عنها، وفيها يقول الإمام علي (عليه السلام):
«الْعَيْنُ حَقٌّ، والرُّقَى حَقٌّ، والسِّحْرُ حَقٌّ»[5]. [6]
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 185، بتحقيق صبحي الصالح: ص269.
[2] نهج البلاغة الخطبة: 2.
[3] الأساطير والمعتقدات العربية قبل الإسلام لميخائيل مسعود: ص80.
[4] الأساطير والمعتقدات العربية قبل الإسلام لميخائيل مسعود: ص81 - 82.
[5] نهج البلاغة: الحكمة 400، ص546 بتحقيق صبحي الصالح.
[6] ينظر: أثر المثيولوجيا العالمية في تكوين عقائد العرب قبل الإسلام في التاريخ ونهج البلاغة ، السيد نبيل الحسني: ص86 – 88 ، ط1 مؤسسة علوم نهج البلاغة – العتبة الحسينة المقدسة لسنة 2022م