بقلم: الدكتور خليل خلف بشير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
يعدُّ الاقتباس من القرآن الكريم في أدعية أمير المؤمنين من السمات والخصائص الدلالية البارزة في خطبه (عليه السلام) ومن ذلك في أدعيته ومناجاته فنجده كثيراً ما يقتبس من القرآن الكريم، وللتدليل على ذلك نأخذ نصوصاً من أدعيته المباركة كما في واحدة من مناجاته ((اللهم إني أسألك الأمان {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [1]،وأسألك الأمان {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}[2]، وأسألك الأمان يوم { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [3]وأسألك الأمان يوم {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}[4]وأسألك الأمان { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [5]وأسألك الأمان { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله} [6] وأسألك الأمان {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[7]، وأسألك الأمان يوم { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ *وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى* نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى }[8]))[9].
ومثل ذلك في قوله ((اللهمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ وَمُدَّتِ الْأَعْنَاقُ وَشَخَصَتِ الْأَبْصَارُ وَنُقِلَتِ الْأَقْدَامُ وَأُنْضِيَتِ الْأَبْدَانُ اللهمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ وَجَاشَتْ مَرَاجِلُ الْأَضْغَانِ اللهمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَتَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ}[10]))[11].ويبدو أن سياق الآية القرآنية هنا يتداخل مع سياق الدعاء بحيث لم ينفصل أحدهما عن الآخر إذ جسّدت الآية الكريمة مفهوم الدعاء بأكمله من الدعوة إلى الفتح والنصر[12].
وكذا قوله ((إليك رفعت الأصوات، ودعيت الدعوات، ولك عنت الوجوه، ولك خضعت الرقاب، وإليك التحاكم في الأعمال، يا خير من سئل، ويا خير من أعطى، يا صادق يا بارئ، يا من لا يخلف الميعاد، يا من أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، يا من قال : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[13]،يا من قال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[14] ويا من قال : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[15] لبيك وسعديك ها أنا ذا بين يديك، المسرف وأنت القائل { لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا }[16]))[17].
وكذا قوله ((إلهي نمت القليل فنبهني قولك المبين { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[18]فجانبت لذيذ الرقاد بتحمل ثقل السهاد، وتجافيت طيب المضجع بانسكاب غزير المدمع، ووطئت الأرض بقدمى، وبؤت إليك بذنبي، ووقفت بين يديك قائما وقاعدا وتضرعت إليك راكعا وساجدا ، ودعوتك خوفا وطمعا ، ورغبت إليك والها متحيرا)) [19].
وقد يكون الاقتباس غير مباشر من القرآن الكريم فينقله بمعناه لا بلفظه، ومن ذلك مثلاً قوله ((اللهمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَدَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ وَالدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ))[20].فقد اقتبس معنى قوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}-النازعات 28-30.
وكذا قوله ((إن المال والبنين حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه. واخشوه خشية ليست بتعذير. واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له. نسأل الله منازل الشهداء . ومعايشة السعداء ومرافقة الأنبياء)) [21].
فقد اقتبس معنى قوله تعالى { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }- الكهف /46، ومعنى قوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} - البقرة /223 .كما اقتبس في قوله (والعمل الصالح حرث الآخرة) معنى قوله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} - الشورى /20. أما خاتمة الدعاء بسؤاله الله منازل الشهداء ومعايشة السعداء ومرافقة الأنبياء، ولعله اقتبس معنى الآية الكريمة، وهي قوله تعالى { وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا})[22]- النساء /69.
ويبدو أن اقتباساته من القرآن لفظاً ومعنى توحي إلى تأثره (عليه السلام) بالقرآن، وهو ربيب القرآن، وبالبلاغة القرآنية، وهو أمير الفصاحة والبيان، فضلاً عن تأثره بأسلوب الدعاء في القرآن الكريم من ذلك مثلاً قوله ((أَلَا وَإِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّكُمْ وَالسَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ وَمَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ وَلَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَلَا لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وَأُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا إِنَّ الله يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وَحَبْسِ الْبَرَكَاتِ وَإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ وَيُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَيَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَيَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وَقَدْ جَعَلَ الله سُبْحَانَهُ الِاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً }[23] فَرَحِمَ الله امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَاسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَبَادَرَ مَنِيَّتَهُ اللهمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَالْأَكْنَانِ وَبَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَالْوِلْدَانِ رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَرَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وَخَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَنِقْمَتِكَ اللهمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ وَلَا تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللهمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ حِينَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ وَأَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الْمُجْدِبَةُ وَأَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ وَتَلَاحَمَتْ عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمُسْتَصْعِبَةُ...)) فالإمام يستحضر في استشهاده بالنص القرآني حالة النبي نوح (عليه السلام)،ويطبقها على علاقة قومه بالله تعالى وعلاقتهم به فكان الاستغفار هو السبيل الوحيد لدرور أنواع الرزق من الغيث والأموال والبنين[24])[25].
الهوامش:
[1]- الآيتان 88و89 من سورة الشعراء.
[2]- الآية 27 من سورة الفرقان.
[3]- الآية 41 من سورة الرحمن.
[4]- الآية 33 من سورة لقمان.
[5]- الآية 52 من سورة غافر.
[6]- الآية 19 من سورة الانفطار.
[7]- الآيات 34-37 من سورة عبس.
[8]-الآيات 11 - 16 من سورة المعراج
[9]- المزار: 173 - 174.
[10]- الآية 89 من سورة الأعراف.
[11]-نهج البلاغة، المختار من كلامه ورسائله، رقم 15.
[12]-ينظر : أدب الدعاء في نهج البلاغة - دراسة دلالية 177.
[13]-الآية 60 من سورة غافر.
[14]- الآية 186 من سورة البقرة.
[15]- الآية 53 من سورة الزمر.
[16]- جزء من الآية 53 من سورة الزمر.
[17]- بحار الأنوار 52/7.
[18]- الآيتان 16و17 من سورة السجدة.
[19]- بحار الأنوار 84/246.
[20]- نهج البلاغة،الخطبة 72،ص 100-101.
[21]- المصدر نفسه، الخطبة 23، ص 48-49.
[22]- ينظر : أدب الدعاء في نهج البلاغة - دراسة دلالية 178-179.
[23]- الآيات 10 - 12 من سورة نوح.
[24]- ينظر : أدب الدعاء في نهج البلاغة - دراسة دلالية 173.
[25]لمزيد من الاطلاع ينظر: من النتاج الفكري لأمير المؤمنين عليه السلام تفسيره المغيب للقرآن الكريم وادعيته العلوية للدكتور خليل خلف بشير، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 142-146.