بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
أما الموضع الثالث الذي تناول فيه الفخر الرازي نفي الإرث بين الأنبياء (عليهم السلام)، هو في تفسيره لسورة النمل، وذلك عند قوله تعالى:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل/16].
وقد اَمتاز هذا الموضع بالمزيد من التناقضات عن الموضعين السابقين، وقد أصبح السمة الخاصة في أقوال الفخر الرازي في هذه المسألة، وذلك ليقينه أنها تعارض القرآن والسُنَّة النبوية، إلا أنه مكبل بقيود سُنّة الشيخين أو لخوفه من الاتهام بالرفض من قبل أشياخه وتلامذته وهي السمة الأبرز في الأنساق الثقافية لأعلام أهل السُنَّة والجماعة كما سيمر بيانه إن شاء الله تعالى وسابق لطفه وفضله وفضل رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه:
فقد ناقض نفسه هنا وناقض علمه، فصرّح في نهاية استقرائه لأقوال من سبقه من المفسرين في الآية بأنه محتكم الى قول أبي بكر المزعوم: (نحن معاشر الأنبياء)، فكان قوله في هذا الموضع على النحو الآتي:
(أما قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}؛ فقد اختلفوا فيه، فقال الحسن: المال، لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث؛ وقال غيره: بل النبوة؛ وقال آخرون: بل الملك والسياسة.
ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً، لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط، وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته؛ ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال: (وورث سليمان داود ماله) لم يكن لقوله: {أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} معنى، وإذا قلنا: وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك، لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه، وكذلك قوله تعالى: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا، دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص، وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال، فأما إذا قيل: ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر قوله (عليه السلام): «نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث»[1].
أقول:
1 ـ لم يزل الفخر الرازي وغيره يسيرون ضمن تأثير الجهل المركب في مسألة الإرث وضابطته التي بنى عليها الفقهاء أحكام الفرائض، وهي زوال الملكية عند الوفاة وانتقالها الى الورثة ما لم تتوافر فيهم الموانع والتي اختلف في عددها بين الفقهاء في المذاهب الخمسة ، أي الإمامي والمالكي والحنفي والشافعي والحنبلي بين كونها ثلاثة، وهي: (الكفر، القتل، الرق)، وبين أنها (عشرون) وهو ما تناوله الشهيد الأول (رضوان الله تعالى عليه) في الدروس[2].
وعليه:
فمحاولة إكساء النبوة أو العلم أو الحبورة أو الأخلاق الحسنة، أو غيرها من التأويلات صفة الإرث، هو جهل مركب في أحكام الإرث، وبالأخص مفهومه وتعريفه وضابطته الشرعية؛ وذلك أن هذه الموارد لا تنطبق عليها الضابطة، فالعلم لا تزول ملكيته بوفاة العالم كي ينقل الى الورثة سواء كان كافراً او مؤمناً حراً أم عبدا، قاتلاً أم بريئاً.
وكذا هو الحال في الأخلاق والسياسة والرياسة والنبوة فجميعها خارجة عن ضابطة زوال الملكية وانتقالها الى الورثة، فضلاً عن أن النبوة هي جعل إلهي ومنصب رباني لا يجري وقوعها بالتوريث.
وعليه:
فقول الفخر الرازي في الرد على الحسن البصري بقوله (ولو تأمل الحسن أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرث الولد) هو مقايسة فاسدة وذلك لما ذكرناه آنفًا، ومن ثم فقد سقط مبناه في الحكم.
2 ـ إنَّ من الغرابة بمكان أن يعترف الفخر الرازي بأن الإرث في الآية هو المال والملك، وأن هذا القول هو الصحيح ولا يبطل بجميع الوجوه التي ردّ بها على القائلين بأن المراد هو: (النبوة والعلم)، وأنّ الأمر الوحيد الذي جعله لا يأخذ بأن الإرث هو المال والملك هو حديث أبي بكر المزعوم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث) فسبحان الله!! فبضعة النبوة فاطمة (عليها السلام)، تقول:
«يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل/16]، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا، إذ قال:
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم/ 5-6]، وقال:
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [سورة الانفال/75]، وقال:
{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء/ 11].
{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة/180].
وزعمتم أن لا حظوة لي، وإرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخّصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي»[3].
والفخر الرازي، يقول:
(فأما إذا قيل: ورث المال والملك معاً، فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر قوله [صلى الله عليه وآله وسلم]: نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث)[4]!!!
فكذّبوا بضعة النبوة وصفوة الرسالة التي يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يؤذيها، وألقوا وراء ظهورهم هجرها له وسخطها وغضبها عليه، بل ألقوا به بعرض الجدار، واستنصروا لخصمها وتضافروا على هضمها .
وهي الحقيقة التي صرّح بها أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام لمّا وارها الثرى وقد حوّل بوجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله قائلا :
«{إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْه راجِعُونَ}، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَه لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ، وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا ولَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ، والسَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ»[5]
وعليه : لا يبالي الفخر الرازي بما يقول علي وفاطمة عليهما السلام ، ومن ثم ليس من المستغرب أن يعارض القرآن والسُنة النبوية في أرث الأنبياء عليهم السلام لينتصر لإمامه ومعتقده في سُنّة الشيخين. [6]
الهوامش:
[1] تفسير الفخر الرازي: ج24 ص 186.
[2] الدروس الشرعية في فقه الإمامية: ج2 ص 342؛ ولمزيد من الاطلاع، ينظر: إرث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المذاهب الخمسة بين منع النبوة ودفع فاطمة (عليها السلام)، للمؤلف.
[3] الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص 139؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج3 ص 37؛ الشافي في الإمامة للمترضى: ج4 ص 70.
[4] تفسير الرازي: ج24 ص 186.
[5] نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الخطبة: 202، ص 320.
[6] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقران والسُنّة واللغة ، السيد نبيل الحسني : 165/169 ، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة ، ط1 دار الوارث كربلاء المقدسة - 2021م