بقلم: د. قاسم خلف السكيني.
الحمد لله رب العالمين، عليه نتوكل وبه تعالى نستعين، سبحانه (الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره). وصلوات ربي الزاكيات، وسلامه الموفور بالخير والبركات، على خير خلقه، وخاتم رسله، محمد وعلى آله الطاهرين.
وبعد:
قال عليه السلام: ((كـُنْ في الفتـْنَةِ كابْنِ اللبُوْنِ، لا ظهْرٌ فـَيُرْكـَبَ ولا ضَرْعٌ فـُيحْلبَ))
ابن اللبون (من الشاء والإبل ذات اللبن غزيرة أم بكيئة)[1]، وهو (ابن الناقة إذا استكمل سنتين ودخل في الثالثة)[2]، أو (الحوار[3] الذي أتى عليه سنتان فلا له ظهر فيطمع في ركوبه ولا له ضرع فيرغب في طلب لبنه). والمراد من هذه الحكمة لزوم الحياد في أوقات الفتن. وقد أجمعت الشروح على هذا المعنى حتى تلك التي روت بتقديم الضرع على الظهر، وتجدر الإشارة إلى أن الشراح الذين رووا بتقديم الضرع على الظهر لم يشيروا إلى سبب التقديم حين شرحوا هذه الحكمة، وأن شروحهم وتفسيراتهم لم تكن مختلفة عن بقية الشروح، ففي شرح الغرر[4] (اجعل نفسك في الفتنة مثل ابن اللبون ليس له ضرع يحلب منه لبن وليس له ظهر يقوى على حمل أحد يعني كن في الفتنة بعيدا عن أطرافها لا دخل لك بها في أي وجه من الوجوه).
ونرى هنا أن غياب الإشارة إلى غاية التقديم والتأخير من جهة، واتفاق الشروح كلها على معنى الحكمة وهو لزوم الحياد من جهة ثانية، يقوي لدينا وقوع رواية العيون وشرح الغرر في السهو. والدليل على هذا عدم وجود قصد من التقديم والتأخير في رواية هذين الشرحين، فضلا عن عدم وجود أية قرينة تدل على وجه من وجوه التأويل. الذي يدعم رأينا في وقوع هذا السهو ورود إشارات ودلالات في الشروح التي روت بلفظ المتن تبين الغاية من تقديم الظهر على الضرع، فقد ورد في الحدائق (عبر عن القوة بالظهر وعن المال باللبن)، وفي شرح ابن أبي الحديد (ابن اللبون لا يكون قد كمل وقوي ظهره على أن يُركب، وليس بأنثى ذات ضرع فيحلب)، حيث أشار إلى الذكورة المقدمة على الأنوثة في أوقات الحرب بالذات. كما أن الطرفين المتحاربين إنما يبحثان عن القوة قبل المؤونة، ولهذه الأسباب مجتمعة تكون الحكمة بتقديم الظهر على الضرع، وقد رفع الشراح الظهر والضرع على الابتداء)[5].
الهوامش:
[1] اللسان: (لبن). والبكيئة القليلة اللبن.
[2] ينظر شروح النهج كافة في شرح هذه الحكمة.
[3] الحوار: الفصيل أول ما ينتج، والجمع حيران العين: (حور) 3/ 287.
[4] ملاحظة عامة: من المهم أن نشير إلى أنَّ ما سنأخذه من شروح النهج من(تعليقات وتعقيبات وشرح مفردات...) هو نفسه الموجود في (أجزاء وصفحات)الشروح الواردة في تخريج الروايات، لذا لا نرى داعيا إلى تكرار الإشارة إلى الأجزاء والصفحات في كل مرة، الا إذا اختلفت أرقام هذه (الأجزاء والصفحات) الواردة في المتن.
[5] لمزيد من الاطلاع ينظر: شرح حكم الإمام علي وتحقيقها من شروح نهج البلاغة: للدكتور قاسم خلف مشاري السكيني، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 25-26.