بقلم: د. قاسم خلف السكيني.
الحمد لله رب العالمين، عليه نتوكل وبه تعالى نستعين، سبحانه (الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره). وصلوات ربي الزاكيات، وسلامه الموفور بالخير والبركات، على خير خلقه، وخاتم رسله، محمد وعلى آله الطاهرين.
وبعد:
قال عليه السلام: ((الفَقـْرُ يُخْرِسُ الفـَطِنَ عـَنْ حُجّتِه، والمُقِلُّ غـَريْبٌ في بَلـْدتِهِ))[1]
المقل (بضم الميم وكسر القاف وتشديد اللام): قليل المال[2]. ومنه قول الشاعر:
رُبَّ ذِي إِرْبَةٍ مُقِلٍّ مِنَ المَا لِ وَذِي عُنْجُهِيَّةٍ مَجْدُوْد[3]
وكلمة المقل قليلة الورود في المعاجم، ففي العين وردت مرتين.
وقد فسر البحراني غربة المقل (باعتبار قلة الالتفات إليه). والبلدة هي (طائفة من البلد وجزء منه)، وأن (البلد كل موضع مستحيز من الأرض عامراً أو غير عامر، خال، أو مسكون)[4]. ولما كان أهل البلدة معروفين فيما بينهم لصغرها، يعرف الغني من الفقير، لذلك استبعدت رواية (البلد) لأنها مبهمة، واثبتُّ رواية (البلدة).
والمعنى المراد من هذه الحكمة الحث على العمل والاستكثار من الغنى، لدفع العوز، والحاجة، المتمثلين بالفقر الذي قد يكون سبباً في خمول النبيه، وأنّ خلو اليد سبب في وحشة الإخوان وتفرقهم. وقد يراد بالفقر والقلة هنا الفقر المعنوي، مثل سوء الخلق، وقلة أعمال البر من العبادات والأعمال الصالحة. وأما انفراد العيون في رواية (الأحمق غريب...) فإن دلالة الأحمق تختلف عن دلالة المقل، ولا تشترك مع المقطع الأول من الحكمة (الفقر يخرس...) دلالياً، فالحمق لا يتحصل منه الإخوان والأعزة، لأن الأحمق نافر منهم بحمقه، في حين يمكن للفقير أن يجتمع حوله الإخوان والأعزاء أن قلـّوا. وفي رواية ابن أبي الحديد (حاجته) عدم وجود تناسب دلالي بين الفطنة الموصوف بها الفقير هنا والحاجة، فـ (الحجة) أنسب أن تقرن بالفطنة. ولكن قد تحتمل روايته معنى آخر بعيدا هو أن الإملاق ربما يكون سبباً في فوت الحاجة، لعدم تمكنه من الظفر بها. ووردت الحكمة بلفظ (بلد) في كنز الفوائد[5])[6].
الهوامش:
[1] رويت في موضعين من العيون؛ ففي ص69(الفقر يخرس الفطن عن حجته)، وفي ص23 (الأحمق غريب في بلدته مهان بين أعزته). ووردت الجملة الأولى في الدستور ص20، والثانية في ص16. وورد تفسير لكلمة (المقل) في الحدائق 2 / 600، ولم ترد الحكمة كاملة. ورويت الجملة الثانية فقط في الغرر 1/377. ورويت (حاجته) بدلاً مــن (حجته) في شرح ابن أبي الحديد 18/ 84.
[2] العين: (قتر) 5/124.
[3] الصحاح: مقل ولم يذكر اسم الشاعر. والمجدود: المحظوظ.
[4] لعين: (بلد) 8/42.
[5] كنز الفوائد للكراجكي ص115.
[6] لمزيد من الاطلاع ينظر: شرح حكم الإمام علي وتحقيقها من شروح نهج البلاغة: للدكتور قاسم خلف مشاري السكيني، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 28-29.