بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
يمكننا مما يبن أيدينا من نصوص استنتاج ملامح فكر علي عليه السلام في الكيفية التي اختطها لجميع تلك الضرائب، والسياسة التي يتبعها في صرف الأموال في وجوهها المستحقة والوازنة بين الداخل والخارج وحساب المستقبل.
1ـ الزكاة:
أو الصدقة، وينبع الاهتمام بها في الإسلام لكونها ضمن العبادات، وهي الركن الثالث في الإسلام، استناداً لقول النبي صلى الله عليه وآله «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصوم رمضان»[1]. وقد أعطى علي عليه السلام للزكاة مكانة هامة، جعلته يتتبع جمعها من المسلمين منذ بداية العملية حتى اللحظة الاخيرة من توزيعها على مستحقيها. وجمع الزكاة في فكر علي عليه السلام، يقوم على دعامة أخلاقية متينة، تحول بين جامعيها والقسرة في جبايتها، لأنها في الأساس تطهير للنفس من الشح، وابعادها عن حب الذات بالتكالب على المادة، ولن يتأتى ذلك الا إذا كان المزكي ذا قلب سليم ونفس سمحة، فمن وصيته لعماله على الصدقات بأمرهم بالقول «عباد الله، ارسلني اليكم ولي الله وخليفته، لأخذ منكم حق الله في اموالكم، فهل في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه، فإذا قال قائل: لا، فلا تراجعه، وان انعم لك فانطلق معه»[2]. ثم أن على ذلك العامل ألا يأخذ من المتصدق أكثر من حق الله المفروض في ماله[3]. ولا يأخذ من المال إلا ما هو رضاً لصاحبه[4] إذ ليس تعني الموافقة على دفع الزكاة، بأن تقوم السلطة بمحاسبة المزكي محاسبة دقيقة باستخدام العسف والإرهاب، لذا يجب على العامل أن يأخذ ما أعطي، اعتماداً على صدق المزكي، وإخلاص إيمانه، وفي حالة امتلاك المتصدق إبلاً أو ماشية فعلى العامل أن لا يدخل إليها إلا بإذنه لأن «أكثرها له... فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءن صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار، فلا تعرضن لما اختاره، ثم أصدع الباقي صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما ثم أصنع مثل الذي صنعت حتى تأخذ حق الله في ماله»[5]. فالمثالية ـ كما نلاحظ ـ قد بلغت الذروة، فلم تقتصر عند علي عليه السلام على الموافقة على اداء الزكاة بل تعدتها إلى التخيير المتناهي في عدالته، وشملت أيضاً طريقة التعامل مع المال والحيوان، إلا أن ذلك لا يعني ـ في فكر علي عليه السلام ـ القبول بأي شيء لا يتناسب ومصلحة مستحقي الصدقة، ففي زكاة الحيوان، على سبيل المثال، يجب عدم قبول المعيب أو المريض[6]، إذ من واجب عامل الزكاة أن لا يقبل إلا ما هو صالح للناس.
ثم إن علياً عليه السلام في مثاليته، يسير مع عامله على الصدقات خطوة بخطوة خلال رحلته الشاقة، فينصحه بأن لا يوكل بما اجتمع عنده من مال المسلمين «إلا ناصحا شفيقاً أميناً حفيظاً، وغير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب»[7]. كما يجب عليه أن يراعي الله فيما اجتمع عنده من حيوانات، حتى تصل إلى مستقرها، فتقسم على مستحقيها وهي سليمة غير متعبة[8].
فإذا اكتملت عملية جمع الزكاة في كل ولايات الدولة، واستقرت الأموال في بيوتها، فعلى القائم بالأمر أن يباشر بتقسيمها على السبعة الذين خصهم الله تعالى في قوله:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله}[9]، ولا أن يتعدى المسؤول في توزيعها أولئك السبعة. وكما يبدو من كلام علي عليه السلام في وصية أخرى إلى عماله على الصدقات، أن المتولي على جمع صدقات البقعة أو الحي، هو الذي يقوم بتوزيع ما اجتمع عنده على المحتاجين، والضعفاء، وذوي الفاقة، من أهل المنطقة ذاتها، كما ان على المتولي ان لا يأخذ حقه من الصدقات الا بإذن ولي الأمر، وبالمقدار الذي يفرضه له، وفي ذلك يقول لعامله على الصدقات «ان لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضا وحقاً معلوماً وشركاء أهل مسكنة وضعفاء وذوي فاقة، وإنا موفوك حقك فوفهم حقهم»[10]. وعلى ذلك فإنه لا يرجع إلى بيت المال المخصص للزكاة الا ما زاد عن حاجة فقراء المنطقة التي جمعت منها، وهو ما يشير ـ حسب فهمنا ـ ان علياً عليه السلام قد خصص مقداراً معينا لكل مستحق في دولة الإسلام، لأنه عادة ما يأمر ولاته بتوزيع الزكاة على مستحقيها، ثم يرسل ما تبقى عنده منها إلى عاصمة الدولة ليقوم الخليفة بتقسيمة بما يقيم التوازن بين الولايات كلها، إذ لا بد ان تكون الزكاة في ولاية ما أكثر منها في ولاية اخرى، لذا فقد اوجب على ولي الأمر أن يراعي ذلك أثناء جمع الصدقة وتوزيعها، واننا وان كنا لا نملك نصا صريحاً بذلك في النهج، إلا أنه يمكن استنتاجه من قوله إلى قثم[11] بن العباس عامله على مكة «انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فأصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والجماعة، مصيباً مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا»[12]، والتقسيم فيمن قبله ـ على ما نعتقد ـ لا يعني الكوفة عاصمة الخلافة بالذات، بل يعني محاولة العدل في التوزيع بين فقراء المسلمين في كل بقاع الدولة)[13].
الهوامش:
[1] صحيح مسلم 1/45.
[2] رسائل 25. وأنعم: أجاب بنعم.
[3] المصدر السابق نفسه.
[4] المصدر السابق نفسه.
[5] السابق. وأصدع: أقسم، واستقالك: أي ظن في نفسه سوء الاختيار فطلب منك أن تعيد عملية القسمة.
[6] المصدر السابق نفسه.
[7] السابق. وملغب: المعي من التعب.
[8] المصدر السابق نفسه.
[9] التوبة/60.
[10] رسائل 26، فقرة 3.
[11] راجع ترجمته في ص 325 من هذا البحث.
[12] رسائل 67، الفقرة الثانية، وقبلك ـ بكسر ففتح ـ: أي عندك، والفاقة: شدة الفقر والخلة ـ بفتح الخاء ـ: الحاجة.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 335-338.