بقلم: السيد نبيل الحسني.
قد لا يلتفت البعض وأن تصفح النصوص التاريخية إلى إنّ من الآثار التي أظهرها إخراج الإمام الحسين عليه السلام النساء إلى أرض كربلاء هو الدفاع عن الإمامة وحق علي عليه السلام في الوصاية والخلافة الذي أنتهك ، وذلك لكونه أول الحقوق التي انتهكت وضيّعت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإن الأمة التي انتهكت حق الله في تعيين الخليفة وجعله في مقام الوصاية لرسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله) وتعديهم على هذا الحق ودفع صاحبه الشرعي عنه وإعطائهم أنفسهم الحق في الاختيار والتعيين على الرغم من نهي القرآن عن ذلك لحري بها أن تنساق إلى ما هو أعظم من الانتهاك لحق الخلافة والإمامة ، وهو سفك دم أبني نبيها (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وولده وأصحابه. بل لم يسلم من القتل حتى الرضع ، فجعلوا لأنفسهم الخيرة في الشريعة ، يحلون ويحرمون وباسم الله يقتلون أبناء النبيين ، قال تعالى:
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}([1]).
وقال سبحانه:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا }([2]).
من هنا: لم يكن السبي والقيود والحبال التي قيدت معاصم بنات النبوة (عليهن السلام) من الدفاع عن الشريعة وإرجاع الحق إلى موضعه عبر الاحتجاج على الخصم الذي لم ينته من التعدي على تلك الحرم الإلهية التي كشفت حقيقة اعتقاده ورؤيته التي تختلف جذرياً عن المعطيات القرآنية والتعاليم السماوية.
لكن الملاحظ في هذا الدفاع على لسان بنات الرسالة هو تسلسله في التوجيه وكأنّه ضربات سيف تتوالى على المعاند لتقطع تلك القيود التي قيّد بها المنافقون عقله بعد أن انصاع إلى أعداء الله مناصراً وعن حجج الله منصرفاً ، بل ومحاربا.
ولذا:
كان المنهاج الدفاعي يترتب على مجموعة من الخطب التي استخدمت فيها العلاجات المناسبة والأدوات الفعالة لاستئصال هذا الفكر الضال الذي ضرب جذور العقيدة القرآنية.
فكان أول الدفاع على لسان العقيلة زينب عليها السلام التي استطاعت تحريك تلك القلوب التي أطبق عليها الرين فأظهرت بخطابها عظمة حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله التي أنتهكت ، ثم بينّت التلازم بين حرمته وحرمة أهل بيته (عليهم السلام) حتى عظم من أهل الكوفة الندم ، ودعوا بالويل والثبور على أنفسهم، لتأتي بعد ذلك فاطمة الصغرى (عليها السلام) وهي ترى هذا الفتح الذي حققه خطاب العقيلة زينب ، لتدافع عبر جولة جديدة من الاحتجاج على الخصم والدفاع عن الشريعة، فتضع أمامهم ذلك الحق الذي انتهكوه ، والحد الذي تعدوا عليه ، ألا وهو حق علي بن أبي طالب عليه السلام في خلافة مقام النبي (صلى الله عليه وآله) فهو الخليفة المجعول من الله تعالى والإمام على الأمة .
فقالت بعد أن أكملت عمتها السيدة زينب خطابها (عليهما السلام) :
« الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأومن به
وأتوكل عليه ، وأشهد : أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده
ورسوله ، وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير دخل ولا تراث ، اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقه، المقتول من غير ذنب، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله، وبها معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم! ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب الضريبة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته يا رب للإسلام صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك صلى الله عليه وآله صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى طريق مستقيم ... »([3]).
ومن ثمَّ : فقد اَحتضنت هذه الكلمات وما تلاها من خطابها (عليها السلام) على كثير من الحقائق التي ضمت حياة الإسلام منذ أن بعث المصطفى (صلى الله عليه وآله) وإلى يوم عاشوراء وما وقع فيه من الرزايا والمصائب ، إلا أنّ المجال لا يسع للإسهاب في دلالاتها وبيان أثارها ، لا سيما ما نزل بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) من الظلم ، فضلاً عن بيان شخصه المتفرّع من القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق:37] [4].
الهوامش:
([1]) سورة القصص، الآية: 68.
([2]) سورة الأحزاب، الآية: 36.
([3]) الاحتجاج للطبرسي: ج2، ص27؛ مثير الأحزان لابن نما: ص67؛ البحار: ج45، ص110.
[4] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : سباي آل محمد صلى الله عليه وآله ، تأليف السيد نبيل الحسني : ص 209 – 212 ؛ إصدار العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 مؤسسة الأعلمي لسنة 1433هـ - 2012 بتصرف وبعض الإضافة .