بقلم: الباحثة زهراء حسين جعفر
الحمدُ لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، وجعله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
ورد حَدِيثِ الإمام عَلِيّ (عليه السلام) بقوله: ((أنَا يَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، والمَالُ يَعْسُوب الكُفَّار)) وَفِي رِوَايَةِ ((الْمُنَافِقِينَ))[1].
التركيب الغريب الذي يلفت انظارنا (يَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِينَ)، لو تأملنا لفظة (يعسوب) لوجدناها من أصل(عسب) تتكون من: ((الْعَين وَالسِّين وَالبَاء كَلِمَاتٌ ثَلَاثٌ مُتَفَرِّدَةٌ بِمَعْنَاهَا، لَا يَكادُ يَتَفَرَّعُ مِنْهَا شَيءٌ، فَالْأُولَى: طَرقُ الْفَرَسِ وَغَيرِه، وَالثَّانِية عَسِيب الذَّنب، وَالثَّالثة نَوْع مِنَ الْأَشْياءِ التِي تَطيرُ))[2]، وَيَقصدُ بالثَّالِثَة الْيَعْسوب هو: يَعْسوبُ النَّحلِ، أي: مَلِكهَا[3]، والجَمْع يعاسيب[4]. واليَعْسوب: السَّيد والرئيس والمُقَدَّم، وأصله فَحْل النَّحْلِ....[5].وقد تبين في العلم الحديث أنّ (اليَعْسُوب): ملكة النَّحل، وهي أنثى، وكان العرب يظنُّونها ذكرًا لضخامتها هو يَعْسوبُ قومه: رئيسهم وكبيرهم [6].
وأصل الحديث ورد في نهج البلاغة: ((أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الفجار))[7]، قال الخطابي: ((ضربَهُ مَثَلا وذلك؛ لِسَبْقِهِ إلى الإسلام ومُبَادَرَتِهِ الناسَ إلى قبولِهِ، فصار النَّاسُ يَتَّبِعُونَهُ كاليَعْسُوب يَتَقَدَّم النَّحْل إذا طارت فَتَتَبَعُهُ طرائقٌ مُطَّردةً))[8]، ويقال: هذا نَحْلَةٌ للواحدِ منها ذكرا كان أو أُنْثى، وللذَّكَر( يَعْسُوب) كما يُقَالُ: هذا نعامةٌ ثم يقول: في الذَّكَر ظَلِيم وهذا دُرَّاجةٌ للذَّكَر والأُنْثى ثم تقول للذكر حَيْقُطان....[9] مقتضى كَلاْمِهِ (عَلَيْهِ السَّلام) انَّ المُؤْمِنينَ يَتبَّعِوُنَنِي، وَالفُجّار، أو الكفار يتبعون المال، (( كما تتَبِعُ النَّحْل بيعْسُوبها، وَهْوَ مُقدَّمُها ورَئيسَها))[10]؛ أي: يلوذ بي المؤمنون، ويلوذ بالمال الكفار، أوالمنافقون كما تلوذ النحل بيعسوبها[11]. ومن هنا قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): أمير النحل، وذكر ابن أبي الحديد قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلفظين مختلفين، تارة: ((«أنت يعسوب الدين» وتارة: «أنت يعسوب المؤمنين» )) [12]، وأرجعه إلى معنى واحد كأنه جعله رئيس المؤمنين وسيدهم، أو جعل الدين يتبعه، ويقفو أثره، حيث سلك كما يتبع النحل اليعسوب[13]، وإنه قَيّدَ الحُكم بضمير الرفع المنفصل(أنت) لكي لا يذهب ((السامع فيه كل مَذْهبٍ مُمكِنٍ))[14]. ويعضد الكلام قول النبي(صلى الله عليه وآله)، في حق الامام (عليه السلام): ((اللهم أدر الحق مع علي حيث دار))[15]. وقد خرجت اللفظة في التركيب من نطاقها الخاص إلى عالم أرحب وأوسع فبعد إن كانت دلالتها منحصرة على طائر فاصبحت في الذي يتقدم قومه)[16].
الهوامش:
[1] النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/298، لسان العرب: (عسب): 1/600، تاج العروس: (عسب)3/369.
[2] مقاييس اللغة: (عسب)4/317.
[3] ينظر: مقاييس اللغة: (عسب)4/318.
[4] ينظر: لسان العرب: 1/599، وتاج العروس: (عسب)3/369، و معجم اللغة العربية المعاصرة: (عسب)2/1496.
[5] ينظر: مقاييس اللغة: (عسب)4/318، والفائق في غريب الحديث: 2/431، ولسان العرب: (عسب)1 /599-600.
[6] ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة: (عسب)2/1496، والمعجم الوسيط: (عسب)2/600.
[7] نهج البلاغة يشرح ابن أبي الحديد: 19/224، نهج البلاغة بشرح محمد عبده: 4/75.
[8] غريب الحديث، الخطابي: 2/9، وذكر ابن سلام قول الأصمعي: (اليعسوب: فحل النحل وسيدها).غريب الحديث: 3/439.
[9] ينظر: غريب الحديث: ابن قتيبة: 2/77، وغريب الحديث: الخطابي: 2/9.
[10] لسان العرب، (عسب): 1/600، تاج العروس: (عسب) 3/369.
[11] ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/298، ولسان العرب: ( عسب)،1/600، وتاج العروس: (عسب)3/369 وغريب الحديث في بحار الأنوار: 4/200،.
[12] نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد: 19/224.
[13] ينظر: م ن: 19/224.
[14] جواهر البلاغة، أحمد الهاشمي: 108-109.
[15] الغدير: 3 /89، احقاق الحق: 5/623.
[16] مزيد من الاطلاع ينظر: كلام الإمام علي عليه السلام في كتب غريب الحديث/دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية، تأليف زهراء حسين جعفر، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، 132-134.