بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
ووصفه الإمام في قوله الآتي بـ (البَهِيْمَة) وذلك في سياق ذمِّ أهل البَصرة بعد وَقْعَة (الجَمَل)، إذ يقول أمير المؤمنين: ((كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ، رَغَا فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ...)) ([1])وذم الإمام هذا من أشدِّ الذم على أهل البصرة؛ لأنّه جعلهم يأتمرون بأمْر المرأة، ويكونون جُنْداً لها، وهي قائد لهم في هذه المعركة، وهذا من أشدَّ التقّريع؛ لأنّ العربي يأنف بِطَبِيعتِه أنْ تقوده المرأة. فكأنَّ الإمام يقول لهم: إنكم لوكُنتُم بدرجة عالية من رجاحة العقل، وحُسْن التفكير والتّدبير ما تَوَلَّت أمركم امرأة، ولا قادتكم إلى الخروج على إمام الأمّة وقائدها. ثُمَّ رفعَ (عليه السلام) من مستوى ذَمِّهِم، بِأنْ جعلَهم اتباعاً (للبَهِيْمَة)، وهي (جَمَل) السيدة (عائشة) الذي يعد راية عَسْكَرِ البَصرة([2])، فقتلوا دُوْنَه كما تقتل الرجال تحت رايتها([3]). ووَصَفَهم بـ(الأتّباع)؛ والتّابع هو التالِي والقائم على هوى غيره([4]). وهذا المعنى يدلنا على شِدّة اللوم والتعنيف الذي وَصَفَهم الإمام به، لاتباعهم (بَهِيْمة) عجماء، لا تُمييز لها([5]). أمّا إيثاره مفردة (بهيمة) على ما سواها من الألفاظ الدالة على الدواب، فلدلالتها على الإبهام وعدم التمييز. وهو يناسب حال المخصوص بالخطاب المخاطَبِيْن الذين اتبعوا بهِيمة لا تَمْييَز لها. وهذا دليل على أنّهم هم أدنى من البَهِيْمة في عدم. التَّمْيِيْزِ، ومما يؤكد حالهم هذهِ إجاَبتِهم لُرِغَائه، وهو صوْته([6]). اشارة إلى طاعتهم العمياء له. وهو من أشْنَع اللّوم وأَدْخَل الذّم([7]). وقد جعل (رغاء البَهِيمة)، كناية عن دعوتها لهم إلى القتالِ، لأنها جاءتهم راكبة عليه([8]) فعد علامة لدعوتهم وراية لحربهم. ويبدوأن الإمام افاد من التوظيف القرآني لمفردة (بَهِيْمَة) الواردة في قوله تعالى الذي يَفْتَتح به سورة (المائدة) إيذاناً بإباحة هذهِ البَهَائم للإنسان، وذلك قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}([9]) وقد ذكر المفسرون أنه إنما قيل: بَهِيْمَة، لأنّ كلَّ حَيٍّ لا يُمَيِّز، فهو بَهِيْمَة، لأنّه أبْهَم عن أنْ التمييز([10]). وقيل: أن المراد بـ (بهيمة الأنْعَام) كل ذاتِ أربع في البَرِّ والبَحرِ، ومنها الإبل والبقر والغنم ([11]). وقد استعمل الإمام (عليه السلام) لفظة (بَهَائم) و (بَهِيَمة) للدلالة على الإبل، وذلك في: (خ/143).)([12]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة: خ/13: 41.
([2]) ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 1/235.
([3]) نفسه.
([4]) ينظر: العين (تبع): 2/78.
([5]) ينظر: لسان العرب (بهم): 12/56.
([6]) نفسه(رغا): 14/329.
([7]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 1/198.
([8]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 1/198.
([9]) المائدة / 1.
([10]) ينظر: التفسير الكبير: 11/97.
([11]) ينظر: الكشاف: 1/635.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 75-77.