مباحث أخلاقية في عهد مالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة الثالثة: علّة تقديمه (عليه السلام) الأمر بالتقوى على طاعة الله وبيان محوريتهما في قاعدة التخلية والتحلية.

مقالات وبحوث

مباحث أخلاقية في عهد مالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة الثالثة: علّة تقديمه (عليه السلام) الأمر بالتقوى على طاعة الله وبيان محوريتهما في قاعدة التخلية والتحلية.

710 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-06-2024

بقلم: السيد نبيل الحسني.

تناولنا في الحلقتين السابقتين دلالة الأمر في قوله (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله):
«أَمَرَه بِتَقْوَى الله» في ضوء تهذيب النفس وبناء الذات، فبينا دلالة الابتداء بالتقوى في الحلقة الأولى، وفي الثانية محورية التقوى في المطاردة بين الملائكة والشياطين في ساحة النفس، ونتناول في هذه الحلقة علّة تقديمه (عليه السلام) التقوى على الطاعة، فقال: «أَمَرَه بِتَقْوَى اللَّه وإِيْثَارِ طَاعَتِه»، وما الفرق بينهما، فضلا عن بيان محورية هذا التقديم في قاعدة التخلية والتحلية التي اعتمدها علماء الأخلاق، ومن ثمّ سنتناول نقاط أربعة، وهي:
1ـ معنى الإيثار في اللغة.
«الإيثار» مأخوذ من مادة: «أثر»، وفيها قال ابن فارس: (الهمزة والثاء والراء له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء الباقي)[1].

2ـ مفهوم الأمر بالإيثار.
ويتضح من المعنى اللغوي مفهوم الإيثار الذي أراده (عليه السلام) من مالك، وهو تقديم طاعة الله تعالى على طاعة النفس أو طاعة غيره من الناس مهما كانت مكانته لدى الأنسان أو المجتمع.

3ـ الفرق بين التقوى والطاعة.
أما الفرق بين التقوى والطاعة: فأن (المستفاد من الروايات هو أن الطاعة، هي: الانقياد لمطلوب الشارع بما أمر به واجبا كان أم مستحبا؛ والتقوى: كف النفس عما نهى الشارع عنه حراما كان أم مكروها، وهو المناسب لمعناهما عند اللغويين أيضا) [2].
ومن هذا المعنى والدلالة يتضح أن الأوامر في الشريعة تقود إلى طاعة الله تعالى، وأن النواهي تقود إلى التقوى بكف النفس عن المحرمات والمكروهات واَجتنابها .

4ـ محورية تقديم التقوى وإيثار الطاعة في قاعدة التخلية والتحلية.
يتضح من ذلك، أي الحكمة في جعله (عليه السلام) التقوى في المرتبة الأولى، بل الأساس الذي يقوم عليه بناء الإنسان، أن النفس لا يمكنها أن تنصرف إلى الطاعة ما لم تبتدئ بالكف عما نهى عنه الشارع المقدس حراما كان أم مكروها.
وهو مما أخذه علماء الأخلاق في تأسيسهم لقاعدة التخلية والتحلية في تهذيب النفس وصناعة الإنسان، فما لم يقوم الإنسان بالكف والتخلي عن الرذائل عبر التقوى لا يمكنه التحلي بالفضائل وإيثار طاعة الله تعالى.
إذ (لا بدّ له أوّلا من التّخلية ثمّ الدّخول في التّحلية لتقدّم الاوّل على الثّاني في مقام السّير والسّلوك، وليست التّخلية في السّالك الَّا تجنّبه، وتنزّهه عن العيوب النّفسانية)[3].
ومن ثم: فقد أستعان بها علماء الأخلاق في الوصول إلى الكمالات النفسية، وذلك أن (فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية، فالتخلي عن الثانية والتحلي بالأولى من أهم الواجبات وأن الوصول إلى الحياة الحقيقية بدونهما من المحالات.
فيجب على كل عاقل أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق التي هي الأوساط المثبتة من صاحب الشريعة والاجتناب عن رذائلها التي هي الأطراف، ولو قَصَّرَ أدركته الهلاكة الأبدية، إذ كما أن الجنين لو خرج عن طاعة ملك الأرحام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى الدنيا سويا سميعا بصيرا ناطقا، كذلك من خرج عن طاعة نبي الأحكام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى عالم الآخرة كذلك.
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72 ]، ثم ما لم تحصل التخلية لم تحصل التحلية ولم تستعد النفس للفيوضات القدسية، كما أن المرآة ما لم تذهب الكدورات عنها لم تستعد لأرتسام الصور فيها، والبدن ما لم تزل عنه العلة لم تتصور له إفاضة الصحة، والثوب ما لم ينق عن الأوساخ لم يقبل لونا من الألوان، فالمواظبة على الطاعات الظاهرة لا تنفع ما لم تتطهر النفس من الصفات المذمومة كالكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والعلى وإرادة السوء للاقران والشركاء وطلب الشهرة في البلاد وفي العباد، وأي فائدة في تزيين الظواهر مع إهمال البواطن.
ومثل من يواظب على الطاعات الظاهرة ويترك تفقد قلبه كبئر الحش[4] ظاهرها جص وباطنها نتن، وكقبور الموتى ظاهرها مزينة وباطنها جيفة، أو كبيت مظلم وضع السراج على ظاهره فاستنار ظاهره وباطنه مظلم، أو كرجل زرع زرعا فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه عن أصله فأخذ يجز رأسه ويقطعه فلا يزال يقوى أصله وينبت فإن الأخلاق المذمومة في القلب هي مغارس المعاصي.
فمن لم يطهر قلبه منها لم تتم له الطاعات الظاهرة، أو كمريض به جرب وقد أمر بالطلاء ليزيل ما على ظهره ويشرب الدواء ليقلع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء متناولا ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب يتفجر من المادة التي في الباطن.
ثم إذا تخلت عن مساوئ الأخلاق وتحلت بمعاليها على الترتيب العملي استعدت لقبول الفيض من رب الأرباب)[5].
ونالت السعادة في القرب من الله تعالى والأنس به في سرها وعلانيتها، وفقرها وغناها، وضرها وعافيتها، وأقبلت بكلها على طاعته، وأتباع فرائضه وسُنَنِه التي نطق بها كتاب الله تعالى [6].

الهوامش:
[1] معجم مقاييس اللغة: ج1 ص53.
[2] الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: ص137
[3] مفتاح السعادة، محمد تقي النقوي القايني: ج7 ص 153
[4] الحش بالفتح أو الضم ثم التشديد والفتح أكثر من الضم: المخرج وموضع الحاجة وأصله من الحش بمعنى البستان، لأنهم كانوا يتغوطون في البساتين، فلما اتخذوا الكنف أطلقوا عليها الاسم مجازا، فالمراد هنا من بئر الحش خزانة الكنيف.
[5] جامع السعادات، محمد مهدي النراقي: ج1 ص37، تحقيق: السيد محمد كلانتر، طبع مطبعة النعمان - النجف الأشرف
[6] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله)، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق، السيد نبيل الحسني، ص97-100 / مع بعض الإضافة. اصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة- العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 -  درا الوارث كربلاء المقدسة 2023م.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3048 Seconds