المرتضى شحيح والرضيّ سخي !
إنّ هذه التهمة ليست التهمة الوحيدة التي أُلصقت بالمرتضى ، بل نسجت الأَلسنة الحاقدة فرية أُخرى أرادوا بها الانتقاص من ذينك العلمين الجليلين ، وإليك واحدة أُخرى من هذه التهم : قال صاحب كتاب « عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب » : ((إنّ المرتضى كان يبخل ولمّا مات خلف مالًا كثيراً وخزانته اشتملت على ثمانين ألف مجلَّد ، ولم أسمع بمثل ذلك ، وقد أناف القاضي عبد الرحمن الشيباني على جميع من جمع كتباً فاشتملت خزانته على مائة ألف وأربعين ألف ، وكان المستنصر أودع خزانته في المستنصرية ثمانين ألف مجلداً)) (1) .
ثمّ إنّ القصّاصين لم يكتفوا بهذه التهمة ، بل ذكروا شاهداً ونقلوا عن أبي حامد أحمد بن محمد الأسفرائيني الفقيه الشافعي انّه قال : كنت يوماً عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة ، فدخل عليه الرضي أبو الحسن ، فأعظمه وأجلَّه ورفع من منزلته ، وخلَّى ما بيده من الرقاع والقصص ، وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ، ثمّ دخل عليه المرتضى أبو القاسم رحمه اللَّه فلم يعظَّمه ذلك التعظيم ، ولا أكرمه ذلك الإِكرام، وتشاغل عنه برقاع يقرأها ، وتوقيعات يوقّع بها ، فجلس قليلًا ، وسأله أمراً ، فقضاه ، ثمّ انصرف .
قال أبو حامد : فتقدّمتُ إليه ، وقلت له : أصلح اللَّه الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلَّم صاحب الفنون ، وهو الأَمثل والأَفضل منهما وإنّما أبو الحسن شاعر ، قال : فقال لي: إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة .
قال: وكنت مُجمِعاً على الانصراف ، فجاءني أمرٌ لم يكن في الحساب، فدعتِ الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوّض الناس واحداً فواحداً .
فلمَّا لم يبق إلَّا غلمانه وحُجّابه ، دعا بالطعام ، فلمّا أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثرُ غلمانه، ولم يبق عنده غيري قال لخادم : هات الكتابين اللَّذين دفعتهما إليك منذ أيّام وأمرتُك أن تجعلهما في السفَط الفلاني فأحضرَهما ، فقال : هذا كتاب الرضيّ ، اتّصل بي أنّه قد وُلدَ له ولد، فأنفذتُ إليه ألف دينار وقلت له : هذه للقابلة ، فقد جرت العادة أن يحمِل الأَصدقاء إلى أخِلَّائهم وذوي مودّتهم مثلَ هذا في مثل هذه الحال ، فردّها وكتب إليّ : هذا الكتاب فاقرأه ، قال : فقرأته وهو اعتذار عن الرد ، وفي جملته : إنّنا أهل بيت لا يطَّلع على أحوالنا قابلة غريبة ، وإنّما عجائزنا يتولَّين هذا الأَمر من نسائنا ولَسنَ ممّن يأخذ أُجرة ، ولا يقبلن صلة .
قال : فهذا هذا .
وأمّا المرتضى فإنّنا كنّا قد وزّعنا وقسّطنا على الاملاك ببادرويا تقسيطاً نصرفه في حَفر فوّهة النهر المعروف بنهرِ عيسى ، فأصاب مِلكاً للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهماً ثَمَنها دينار واحد ، قد كتب إليّ منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب ، فاقرأه ، فقرأته وهو أكثر من مائة سطر ، يتضمّن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهزّ والطلب والسؤَال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه .
قال فخر الملك : فأيّهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل ؟ هذا العالم المتكلَّم الفقيه الأَوحد ونفسه هذه النفس ، أم ذلك الذي لم يُشهر إلَّا بالشعر خاصّة ، ونفسُه تلك النفس ! فقلت : وفّق اللَّه تعالى سيدنا الوزير فمازال موفّقاً ؛ واللَّه ما وضع سيدنا الوزير الأَمرَ إلَّا في موضعه ، ولا أحلَّه إلَّا في محلَّه ! وقمت فانصرفت (2).
قرائن تكذّب هذه القصة إنّ ثمة قرائن وشواهد قويّة دلَّت على أنّ القصة ، حديث كاذب ، وتهمة مختلقة ، وإليك تلك القرائن المفيدة للعلم بخلاف هذه الحكاية :
1 - إنّ الشريف المرتضى تقلَّد بعد أخيه الرضي نقابة الشرفاء شرقاً وغرباً وإمارة الحاج والحرمين ، والنظر في المظالم ، وقضاء القضاء ثلاثين سنة وذلك من عام 406 ) وهو العام الذي توفّي فيه أخوه الرضي ) إلى عام 436 الذي توفّي فيه نفس الشريف .
أفهل يمكن أن يقوم بأعباء مثل هذه المسؤولية الاجتماعية من يبخل بدينار واحد يصرفه فخر الملك في حفر نهر تعود فائدته إلى الجميع ، ويكتب في إسقاطه أكثر من مائة سطر ؟ ! حاشاه .
هذا والحجيج بين شاكر لكلاءته ، وذاكر لمقدرته ، ومُطْرٍ لأَخلاقه ، ومتبرّك بفضائله ، ومثنٍ على أياديه ، وهذا يفيد أنّ الشريف المرتضى كان كأخيه الرضي
سخياً معطياً ، ولم ير للمال قيمة .
2 - إنّ ابن خلَّكان بعد ما عرّفه بقوله : كان إماماً في علم الكلام والأَدب والشعر ، أتى بقصة حكاها الخطيب التبريزي ، وهي بنفسها أقوى شاهد على أنّ السيد كان ذا سماحة كبيرة .
قال الخطيب : إنّ أبا الحسن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سلَّك الفالي الأَديب كانت له نسخة لكتاب « الجمهرة » لابن دريد في غاية الجودة ، فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها واشتراها الشريف المرتضى بستّين ديناراً ، فتصفّحها فوجد فيها أبياتاً بخطَّ بائعها ، وهي :
أنِسْتُ بها عشرين حولًا وبعتها
فقد طال وَجْدي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي أنّني سأبيعها
ولو خلَّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقار وصبيةٍ
صغارٍ عليهم تستهلُّ شئوني
فقلت ولم أملك سوابق عَبرةٍ
مقالة مكويّ الفؤَاد حزينِ
« وقد تُخرج الحاجات يا أُم مالك
كرائم من ربّ بهنّ ضَنين »
وقال الخطيب :
فأرجع السيد النسخة إليه وترك له الدنانير.
أفهل في وسع البخيل الشحيح المقدم على التنقيص من كرامته لأَجل إسقاط دينار ضُرب عليه لحضرته ، أن تسخو نفسه وتجود بمثل هذه الدنانير ؟ !
3- روى أصحاب التراجم أنّ السيد المرتضى كان يجري الرزق على جميع تلامذته حتى انّه قرّر للشيخ الطوسي كلّ شهر أيّام قراءته عليه اثني عشر ديناراً وعلى ابن البرّاج كلّ شهر ثمانية دنانير ، ليتفرّغوا بكلّ جهدهم إلى الدراسة من غير
تفكَّر في أزمات المعيشة « 1 » .
أفي وسع القاري أن يتّهم من يدرّ من ماله الطاهر أو ممّا يصل إليه من الناس من الحقوق الشرعية على تلامذته الكثيرين البالغ عددهم المئات هذه الرواتب الطائلة ، أن يشحّ ويبخل بدينار ، ويكتب في إسقاطه مائة سطر ؟ ! !
4- إنّ الشريف المرتضى كان قد وقف قرية على كاغذ « 2 » الفقهاء ، حتى لا يواجه الفقهاء أية أزمة في لوازم الكتابة والتحرير .
5 - وقد روي أنّ السيد المرتضى كان يملك قرى كثيرة واقعة بين بغداد وكربلاء ، وكانت معمورة في الغاية ، وقد نُقِل في وصف عمارتها أنّه كان بين بغداد وكربلاء نهر كبير ، وعلى حافتي النهر كانت القرى إلى الفرات ، وكان يعمل في ذلك السفائن ، فإذا كان في موسم الثمار كانت السفائن المارة في ذلك النهر تمتلئ من سقطات تلك الأَشجار الواقعة على حافتي النهر ، وكان الناس يأكلون منها من دون مانع « 3 » .
6- قد نقل أصحاب السير أنّ الناس أصابهم في بعض السنين قحط شديد ، فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوته ، فحضر يوماً مجلس الشريف المرتضى وسأله أن يأذن له في أن يقرأ عليه شيئاً من علم النجوم ، وأمر له بجزاية تجرى عليه كلّ يوم ، فقرأ عليه برهة ، ثمّ أسلم على يديه
7- إنّ ياقوت الحموي نصّ في معجم الأُدباء ( ج 3 ، ص 154 ) على أنّ المرتضى كان يدخل عليه من أملاكه كلّ سنة أربعة وعشرون ألف دينار .
8 - إنّ الشريف المرتضى هو أوّل من جعل داره دار العلم وقدرها للمناظرة ويقال : إنّه أُمّر ولم يبلغ العشرين ، وكان قد حصل على رئاسة الدنيا بالعلم والعمل الكثير ، والمواظبة على تلاوة القرآن وقيام الليل ، وإفادة العلم ، وكان لا يؤَثر على العلم شيئاً مع البلاغة وفصاحة اللهجة .
وحكي عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنّه قال : كان الشريف المرتضى ثابت الجأش ، ينطق بلسان المعرفة ويردّد الكلمة المسدّدة ، فتمرق مروق السهم من الرمية ما أصاب وما أخطأ أشوى.
والقاري الكريم إذا لاحظ ما ذكرناه في هذه الفقرات الخمس الأَخيرة يقف على تفاهة ما نُسب إلى هذا العَلَم من تلك القصّة المنحوتة المختلَقَة .
9 - إنّ القصّة تتضمّن أنّ فخر الملك لم يُعظِّم المرتضى بما يليق بشأنه وتشاغل عنه برقاع يقرأها وتوقيعات يوقع بها ، ولكن الفخر هذا قد عظم المرتضى بأفضل ما يمكن يوم مات الشريف الرضي حيث إنّ المرتضى لم يشهد جنازة أخيه ، ولم يستطع أن ينظر إلى تابوته وذهب إلى مشهد موسى بن جعفر عليمها السَّلام ، ومضى فخر الملك بنفسه آخر النهار إلى المشهد الكاظمي ، واستدعى منا لسيد العود إلى داره ببغداد .
فبأي هذين الموقفين نذعن ؟ ! هذه القرائن والشواهد تشهد بوضوح على بطلان هذه القصة الخرافية ، وتدلّ على أنّ ناسجها نسجها في غير موضعها .
10 - قد اشتهر على ألسن العلماء أنّه لمّا اتّفقت فقهاء العامة على حصر المذاهب الفقهية الإِسلامية التي تعدّدت وتشعّبت من زمان الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى عصر السيد المرتضى في مذاهب معيّنة ، التقى السيد المرتضى بالخليفة وتعهّد له أن يأخذ من الشيعة مائة ألف دينار حتى ترفع التقيّة والمؤاخذة على الانتساب إليهم ، فتقبّل الخليفة ؛ ثمّ إنّه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفاً ، وطلب من الشيعة بقية المال ، ومن الأَسف إنّهم لم يقدروا عليه وهذه القصة سواء أصحّت أم لا ، تكشف على أنّ السيد كان من السخاء بمكان بحيث أمكن نسبة هذه القصّة إليه .
هذه أهم الدلائل التي تبين كذب وافتراء تلك القصة التي أرادوا منها الانتقاص من السيد الجليل بعد أن أعجزهم عن مباراته في العلم والمعرفة لذلك راحوا يلفقون له قصصاً زائفة يبتغون تشويه صورته ولكن يأبى الله تعالى إلَّا نصرة الحقِّ وأهله.
((تذكرة الأعيان, الشيخ السبحاني, ص37-38 بتصرف)).