ظلّت شخصية امير المؤمنين الإمام علي بن طالب عليه السلام مثيرة للاهتمام في مختلف العصور، وعند مختلف المفكرين والباحثين والعلماء، من مسلمين وغيرهم، لما تحمله هذه الشخصيّة من قيم أخلاقية جمة، ومن أبعاد إنسانيّة شاملة، ومن أصداء تربويّة واسعة التأثير.
ومن هذا الباب وجدت هذه الشخصيّة العظيمة منفذاً إلى فكر الفقيه الشهيد السيد محمد رضا الشيرازي، ولقيت عناية فائقة من خلال كتاب «أمير المؤمنين، الشخصيّة الخالدة» الذي نظر إلى شخص الإمام علي عليه السلام من زاوية خاصة وعلى وفق رؤية مختلفة عن رؤى كلّ من حاول استعادة ألق شخصيّة الإمام، وبيان سرّ القدرة التأثيريّة التي مازالت قادرة على اختراق جدار الزمن الذي يمتدّ لأكثر من أربعة عشر قرنا.
ولعلّ هذا السؤال المهمّ كان الباعث القوي للفقيه السيد محمد رضا الشيرازي قدس سره للخوض في الأسباب الموجبة لخلود شخصيّة الإمام في ذاكرة الأمة، على الرغم من الفاصل الزمني الكبير الذي يفصلها عنها (أربعة عشر قرناً أو يزيد).
ولا يجد السيد الفقيد غضاضة من العودة للماضي، والاستعبار به لقراءة الحاضر والمستقبل معاً، فالعودة للماضي استيحاء لنماذجه الإنسانيّة العظيمة وقرنها بنماذجه السيئة، هي ليست عودة من أجل الماضي لذاته، وإنما هي عودة محمودة ومطلوبة، لان العودة لمثل هذه الشخصيّات هي بحث دائب عن الحق ورموزه، وعن الباطل ورموزه، وهو بحث سيضيئ لنا طريق الحاضر والمستقبل معا، لأنّه بحث يدور في الشخصيّة الحقوقيّة لا الحقيقيّة، على فرض أن البحث الأول معني بشخصيّة الإنسان على وفق ما يتمتع به من قيمة واعتبار داخل المجتمع، في حين إنّ البحث في الثانية معني بشخصيّة الإنسان الحقيقيّة (الواقعيّة).
كما أنّ هذه العودة إلى نموذج إسلامي حي كعلي بن أبي طالب عليه السلام لا تعني – بتاتا - المقارنة بينه وبين معاوية لأن هذه المقارنة مرفوضة عقلاً ومنطقاً، وهي كالمقارنة بين النور والظلام.
غير أن السيد محمد رضا الشيرازي يشير إلى عوامل عديدة نفخت في معاوية حتى أوصلته إلى درجة من الممكن أن يُوضع بإزاء علي بن أبي طالب، ولعل أهم هذه العوامل تتمثّل بما يلي:
إنّ تقييما صحيحا وعادلا لكلّ شخصيّة إنسانيّة، لا يمكن أن يتم بشكل صحيح مالم يُوضع في الحسبان كلّ أبعاد شخصيّته التي سترجّح كفّة ميزانه على ضوء معطياتها العامّة والخاصّة، ولذا يضع الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي قدس سره مجموعة أبعاد معرفيّة يقرأ من خلالها شخصيّة الإمام علي وصولا إلى إطلاق تقييم عادل على وفق الأبعاد المشار إليها، أمّا هذه الأبعاد فهي:
وهي مجموعة اللذائذ التي تنجم عن إشباع الحواس الخمس الموجودة عند كل إنسان، وهي ملذّات تشكّل بمجموعها ضرورة لكلّ إنسان كي يستمتع بها في هذا الوجود، غير أنّ الاقتصار عليها والإلحاح في الاستجابة لإغراءاتها سيُخرج الإنسان عن آدميّته ويُدخله في طور آخر مغاير تماما، هو طور البهيميّة، وقد لمّح الإمام علي إلى هذا المعنى، ففي الشعر المنسوب إليه يقول:
أبُنيَّ إنّ من الرجالِ بهيمةً في صورة الرجل السميع المبصرِ
فطنٌ بكلّ رزيّة في ماله وإذا أصيب بدينِه لم يشعر
وقد عرفَ عن عليّ عليه السلام زهدَه وورعه وتقواه، وعدم مبالاته بالنوازع التي تحتّمها اللذائذ الجسديّة، وهو القائل في نهج البلاغة: «وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه» وهو القائل أيضا: «فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس...» في حين كان معاوية في الطرف المقابل يأكل في اليوم سبع أكلات باللحم، وكان يأكل من الفاكهة والحلوى الشيء الكثير، وهو يقول: «والله ما أشبع، وإنّما أعيا...».
وهي نوع آخر من اللذائذ يختلف عن سابقه في كونه ليس قابلا للإشباع بالصور المشار إليها آنفا، وإنّما من خلال تلبية مطالب لتصورات وهميّة تجتاح بعض الناس دون بعضهم الآخر، وكما يجسد ذلك سلوك البعض ممن بُهروا بالرياسة والزعامة، وغرّتهم أبّهة السلطة فاستجابوا لخيالاتهم وأوهامهم الأشرة، ولعلّ الإمام علي هو أنموذج مثالي للشخصية المتزنة التي لم تأسرها رغبات الرياسة، ولم تحد بها مطامح الزعامة عن جادّة الصواب في زمن تكالب عليها الآخرون وباعوا دينهم، وزيّفوا ودلّسوا في سبيل الوصول إلى ما يطمحون إليه كاذبين على الناس وخادعين نفسهم قبل خدع غيرهم، أما الإمام علي فالرياسة لا تعادل عنده عفطة عنز، ولا تساوي شسع نعله المخصوف حتى يقيم عدلا، أو يردّ ظلما، أو ينتصف إلى مظلوم.
وهو بعد ثالث يجد له صدى رائعا في الشخصيّة الإنسانيّة التي مثّلها علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد يكون الإنسان غارقا في ملذاته الحسيّة والجسديّة لكنه مفتقر إلى راحة الضمير، وقد تصادفنا الحياة بآخر محروم بكل معاني الحرمان لكنه قرير العين مرتاح الضمير مطمئن النفس!
ومن هنا فالملذات الجسديّة والملذات الخياليّة لا تساوي راحة الضمير، كما أنّ راحة الضمير لا تُلزم توفّر الملذات الجسديّة والملذات الوهميّة والخياليّة (ص 18)، ولنا في سيرة أمير المؤمنين دليل ساطع على ذلك، إذ إنّه أطلق قولته المشهورة «فزتُ وربّ الكعبة» عندما ضرب بسيف ابن ملجم في محراب صلاته، مرحّبا بالموت ما دام حقّا وأجلا بكتاب معلوم، وهو مرتاح الضمير مطمئن البال، في حين قال معاوية عند نزول الموت به: «يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى- وهو واد بمكة- وإنّي لم آل من هذا الأمر شيئا....» فشتان بين الاثنين!
وهي من الأبعاد المهمة للشخصيّة الإنسانيّة – بحسب الفقيه الشيرازي- حيث يمكن أن تكون للإنسان سمعة حسنة في عصره لكن القلائل من الناس من تزول سمعتهم الحسنة وذكرهم الطيب من الأفواه بعد مرور فترة قليلة على رحيلهم إلى دار الآخرة، ورغم محاولات معاوية محو الصورة الحسنة للإمام علي عليه السلام في أذهان الناس فإنّ هذه الصورة الحسنة ترسخت مع السنين بل ازدادت عما كانت عليه، وهذا دليل على قدرة هذه الشخصية على اختراق حاجز الزمن وتجديد ذكراها العطرة ونموذجها الإنساني الحي مع مرور الأيام.
هي امتداد الإنسان وبعد من أبعاد شخصيّته كما رآها السيد الراحل قدّس سره، فالذريّة تواصل خط الإنسان الذي ابتدأه في الحياة شرط أن تسعى هذه الذرية للخير والصلاح وسعادة الدارين، وقديما قالوا: «من يشبه أباه فما ظلم» وعلى سنة الآباء يكون الأبناء مع استثناءات قليلة بطبيعة الحال، ومن هنا كانت ذرية الإمام علي عليه السلام تسعى للسير في خطاه القويمة، فالإمام الحسن عليه السلام تحمّل الأذى الكبير من أجل مواصلة المسيرة بالرغم من صعوبة الظروف التاريخيّة آنذاك، وكذا الحال بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام الذي قدم نفسه وأهل بيته قربانا لله ولدينه من أجل أن يكون على خطى أبيه وجدّه صلوات الله عليهما وهكذا بقية الأبناء البررة الذين ما حادوا عن الخط ولا زالوا عن الطريق، في حين كانت ذرية معاوية امتدادا لمنهجه ولطريقته التي أرادها، وقد جسّد يزيد مسيرة أبيه وتوّجها باعتدائه على حرمات رسول الله وبقذفه بيت الله الحرام بالمنجنيق.
لكلّ إنسان - كما يرى السيد محمد رضا الشيرازي- خطّا فكريا ومنهجا حياتيّا يسلكه ويدعو إليه، وقد يضحّي الإنسان بحياته من أجل إشاعة ما يراه صحيحا وسليما بين الناس، والأمثلة تطول في هذ الخصوص، وقد كان للإمام خطا فكريا واضحا نلمس تأثيراته حتى يومنا هذا الذي ما زال شاهدا على علوم علي عليه السلام وعلى سعة فكره الخلّاق، بل لا نبالغ إذا قلنا أن ما من علم من العلوم إلّا ويعود لعلي بن أبي طالب، فعلم الكلام وأدلّة التوحيد والعرفان يشهد بها نهج البلاغة بوضوح، وكلّ رجالات المذاهب الإسلاميّة تتلمذت على يدي علي عليه السلام بصورة مباشرة أو بأخرى غير مباشرة عن طريق أولاده وأحفاده الذين هم بالضرورة تلاميذه، أمّا معاوية فلا يستطيع أحد من المؤرّخين أو الإخباريين أن يثبت بالدليل القاطع أنه أبقى لنا علما واحدا، أو أجاد علما واحدا.
وهو أهم الأبعاد في شخصيّة الإنسان بنظر السيد محمد رضا الشيرازي، لأن الأبعاد الأخرى كلها مؤقتة أما بعد الآخرة فهو البعد الذي لا ينتهي، قال تعالى: (فَمَن زُحْزِحَ عِنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) سورة آل عمران: الآية 185.
وقد يصحّ القول عن معاوية أنّه ربح جانبا من البعدين الأول والثاني، لكنه خسر الدنيا والآخرة في واقع الأمر لأنه لم يبق لنفسه ولأولاده ذرية يُعرفون على وجه الأرض، في حين تملأ ذرية علي عليه السلام الآفاق ومنهم العلماء والصالحون والأبرار.
وهكذا يجب التمييز بين الخطين والمنهجين، المنهج الذي يولي عنايته للذائذ الحسيّة على ما سواها، أو للذائذ الوهميّة على حساب الآخرة وخسارتها، وبين منهج الحق وخطّه القويم الذي يدعو إلى الفضائل والخير وإلى بناء الحياة بشكل صحيح بعيدا عن هوى النفس والعنجهيّة والغرور.