بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ سجاد الربيعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين... وبعد
يعد حدث الغدير حدثا عظيما تجسيدا للأمر الإلهي لقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))[1], بمعنى يا أيها الرسول لا تأخذك في الله لومة لائم , ولا تتردد ولا تتوقف في إبلاغ هذا الامر المهم للمسلمين جميعا.
لأن فيه كمال دينهم وتمام نعمهم ورضا الرب بالإسلام دينا لهم, وحينما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الامر والوصاية لعلي (عليه السلام) وتنصيبه إماما جاءت الآية المباركة ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ))[2].
فجوهر رسالة الغدير يتمثل في حقيقة الدين, الذي هو التربية والاعداد وصناعة الانسان الجديد على وفق المعايير التي أرادها الله سبحانه وتعالى, فالدين في جوهره يعلمنا كيف نعيش وكيف نفكر وكيف نتعاطى وكيف نتعامل كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :(الدين المعاملة)[3].
اذا موضوعية الدين ليست مجرد معلومات يحصل عليه الانسان متى ما شاء, وإنما هو التغيير الجذري وحالة الانقلاب التي تحصل بوجود الانسان ليفكر بطريقة مختلفة ويمارس أداء مختلفا فلذلك نجد أن مجمل التعامل الإسلامي في الرسالة الاسلامية مع القضايا المختلفة ما كان تعاملا على أساس الأمر والنهي فقط، أي أفعل ولتفعل, وما كان التعامل على أساس الموقف القاطع الذي يلزم به الجميع, بل كان الاسلام يتعامل مع الناس بالأسلوب التدريجي في القضايا.
فطبيعة الرسالة لكي يفهما الناس قائمة على أسلوب التدرج في كل القضايا , من خلال الانطباع والتدرب والتأهيل وصياغة الانسان تكاملا على ضوء منهجية الدين.
فالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت له سلطتان وليست سلطة واحدة, سلطة الرسالة من أنه رسول الله, وهذا دور يمارسه من خلال نقل الأخبار عن السماء وإبلاغ الرسالة عن الله سبحانه وتعالى الى الإنسان, ولكن هناك دور آخر لرسول الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) غير سلطة الرسالة, وهي سلطة الولاية على النفوس, ما يسمى بالدور الولائي للرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم), الذي يعبر عنه بالدور التربوي الذي يحول الخطاب السماوي والبلاغ الإلهي إلى تجسيد عملي من خلال تربية الأمة للالتزام بهذه التعليمات السماوية والتشريعات الإلهية.
وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة في سورة الاحزاب ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ))[4], فكلمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تتقدم على كلماتهم وآرائهم وأمزجتهم ورغباتهم, والمعنى أيها المؤمنون أذا أردتم أن تكونوا مؤمنين فعليكم أن تأخذوا بأقوال النبي (صلى الله عليه واله وسلم).
من هنا نستطيع ان نقف على اسرار الغدير ولماذا حينما وقف الرسول في غدير خم وسأل المسلمين سؤالا قبل أن يقول كلمة, وقف وحياهم وقال أيها الناس أيها المؤمنون ألست أولى بكم من أنفسكم, ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم, وبعبارة أخرى ألست إرادتي مقدمة على أرادتكم.
فمن خلال هذه التساؤلات نفهم أن للغدير أبعاداً وأسراراً أكثر مما يتصوره العقل البشري, إنه رسالة السماء للإنسانية جميعا المكملة لمسيرة الرسالة بالإمامة وحفظها من الانحراف، ولهذه الإمامة من هو أهل لها لأنه سيخلف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها وذلك الشخص هو (علي ابن ابي طالب ـ عليه السلام) الذي ما عرفته البشرية حق معرفته بل عرفه الله ورسوله كما روي في الأخبار الكثيرة أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا)[5], لهذا استحق (عليه السلام) أن يحمل وسام الوصايا بجدارة دون سائر العالمين يوم غدير خم.
وما لهذا اليوم من الفضل والعظمة عند الله تعالى, فيه اكتملت الرسالة وأتمت النعمة, وهذا اليوم الذي جعله الله سبحانه وتعالى عيدا للمسلمين وتشريفا وكرامة ومزيدا لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم), ونكتشف فضل الغدير مما ورد عن أهل البيت (علهم السلام): (فقال الرضا عليه السلام حدثني أبي عن أبيه قال: إن يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض إن لله في الفردوس الاعلى قصرا لبنة من فضة ولبنة من ذهب ثم ذكر وصف ذلك القصر وما يجتمع فيه يوم الغدير من الملائكة وما ينالون من كرامة ذلك اليوم)[6].
تتجلى عظمة الغدير أكثر فأكثر عبر تعاليمه السامية وقيمه المثلى, تلك القيم التي تصنع التوازن السليم بين متطلبات الروحية والمعنوية والعقلية والمادية للبشر من خلال تحقيق أهداف الغدير التي رسمها الباري عزوجل في سعادة البشر والمجتمعات, من خلال سمو الاحكام الدينية وسمو قيادتهم التي تحقق طموحات الناس في حياتهم الكريمة, وصيانة الامه من الانحراف وقوع الفتن والاهواء.
فالغدير أوثق الأدلة عل اختصاص الخلافة والولاية لعلي (عليه السلام) وقد أحتج بها الامام الحسين (عليه السلام) في مكة لمعارضة حكومة معاوية وشجب سياسته الخبيثة التي اطاحت بالدين وزرعت في المجتمع الفتن والزيغ.
يقول (عليه السلام): فإن هذا الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما علمتم ورأيتم وشهدتم و بلغكم، وإني أريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني واسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم أرجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومن ائتمنتموه من الناس ووثقتم به فادعوه إلى ما تعلمون من حقنا فإنا خاف أن يدرس هذا الحق ويذهب ويغلب والله متم نوره ولو كره الكافرون، وما ترك شيئا مما أنزل الله في القرآن فيهم إلا تلاه وفسره ولا شيئا مما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أبيه وأمه ونفسه وأهل بيته إلا رواه وكل ذلك يقولون: اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعون: اللهم نعم قد حدثني به من أصدقه وآتمنه من الصحابة - إلى أن قال: قال (عليه السلام): أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: ليبلغ الشاهد الغايب؟ قالوا: اللهم نعم[7].
وفي الختام فإن رسالة الغدير إرادة السماء في الارض في تجسيد معدن الرسالة وعبق أسرارها في ولاية علي بن ابي طالب (عليه السلام) من خلال بيان دوره في إمامة الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إضافة إلى دوره القيادي في الأمة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم).
الهوامش:
[1] ـ سورة المائدة: 67.
[2] ـ سورة المائدة: 3.
[3] ـ التفسير المبين , محمد جواد مغنية (ت : 1400هـ), مؤسسة دار الكتاب الإسلامي ,1403 - 1983م , ط 2: 424.
[4] ـ سورة الاحزاب: 6.
[5] ـ روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه , محمد تقي المجلسي (ت: 1070 هـ) , تحقيق : وعلّق عليه وأشرف على طبعه « السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي , بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور(د ط): 5/ 492 .
[6] ـ وسائل الشيعة ( آل البيت ) , الحر العاملي(ت: 1104 هـ) تحقيق : مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث: 1414هـ , ط2: 14/ 388 .
[7] ـ الغدير, الشيخ الأميني(ت: 1392 هـ) دار الكتاب العربي - بيروت – لبنان , 1397 - 1977 م ط 4: 1/ 199.