الحمد لله الذي جعل العلم للعلماء نسبا، وأغناهم به وإن عُدِموا مال ونسبا، ولطلبه سار الكريم ويوشع وانتصبا، إلى أن لاقا من سفرهما نصبا، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وآل بيته الطيبين الطاهرين معدن العلم النجباء.
أما بعد: فقد أضحى نتاج الإمام علي(عليه السلام) اللغوي منهلا يروي شغف الدراسين على اختلاف مستوياتهم، وقد متح منه علماء اللغة وجهابذتها، فمنهم من اتخذه وسيلة لجمع مفرداتها والتمثيل لمعانيها كما هو حال المعاجم العربية، ومنهم من اتخذ كلامه لتقعيد اللغة وتثبيت قواعدها بعد القرآن الكريم، وأهميته متأتية من عدة جوانب منها: بوصفه صادر عن سيد البلغاء والمتكلمين بعد رسول الله( عليهم السلام )، وأنه متن يرجع إلى عصر الاستشهاد الذي اتفق عليه منظري اللغة.
وسيجتهد المقال لبيان أثر كلام الإمام علي (عليه السلام) في المعاجم العربية، متخذا من معجم تاج العروس من جواهر القاموس، للمؤلف: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ) إنموذجا.
ونظرة واحدة في معجم تاج العروس تكفي لبيان أثر كلامه(عليه السلام) فيه، ولو دققنا النظر أكثر نجد مؤلفه( الزبيدي) يعتمد في شرح مفردات قاموسه على منهجية تقضي بالتمثيل لاستعمال المفردة من النص القرآني تارة ومن كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) تارة أخرى، ولايمكن الإحاطة بفيض هذا التأثير في هذا النزر القليل؛ إذ رأينا ذكر الإمام علي (عليه السلام) قد تكرر(500) مرة في عموم المعجم، وهذا عدد يكشف عن نتاج الإمام(عليه السلام) في هذا السفر اللغوي الرصين، وهذا الرقم ينهض لرسالة ماجستير، وسنعرض فيما يأتي نماذج لتحليل هذا العالم(الزبيدي) لمفردات اللغة لينجلي للقارئ هذا الأثر:
من المفردات التي مُثل لمعنى استعمالها من كلام الإمام علي(عليه السلام) قوله:شنآني
1- شنأ: شَنأَه كمنَعَه وسَمِعه، وشَنَآنُ قَوْم، أَي بغْضَاؤُهُم،(وشَنْآن) والأُنثى (شَنْآنة) بِالْهَاءِ (وَشَنْأَى) كسَكْرى، ثمَّ وجدْت فِي عبارَة أُخرى عَن اللَّيْث: رجل (شَنَاءَةٌ) وشَنَائِيَة بِوَزْن فَعَالَة وفَعَالِيَة أَي مُبْغِض سَيِّيءُ الْخلق، ورُوِي: لَا يُتَشَنَّى، أُبدل من الْهمزَة ياءٌ يُقَال([1])، وشَنِئْته أَشْنَؤُهُ شَنْأً وشَنَآناً، ثم يذكر استعمال الإمام(عليه السلام) للمفردة، فيقول: وَمِنْه حَدِيث الإمام عليّ (عليه السلام)([2]): (( ومُبْغضٌ يحْمله شَنَآني على أَن يَبْهَتْنِي))([3])،وهو نص مقتطع من قول الإمام(عليه السلام): ((دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إنّ فيك من عيسى مثلا ؛ أبغضَته يهود حتى بهتوا أُمّه ، وأحبّته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به .لا وإنّه يهلك فيَّ اثنان : محبّ يقرّظني بما ليس فيَّ ، ومبغض يحمله شنآني))([4]).محب يقرظني على أن يبهتني . وَفِي التَّنْزِيل ((إِنَّ ((شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ)) / الْكَوْثَر: 3، أَي مُبْغِضُك وعدُوُّك.
2- ضوأ: (الضَّوْءُ) هُوَ(النُّورُ) وهما مُتَرَادِفَانِ عِنْد أَئمة اللُّغَة، وَقيل: الضَّوْء: أَقوى من النُّور، واستدلَّ بقوله تَعَالَى:((جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآء وَالْقَمَرَ نُوراً)) /يُونُس: 5، ثم يذكر استعمال الإمام(عليه السلام) للمفردة بقوله: وجاءَ فِي حَدِيث الإمام عليَ (عليه السلام): لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ العِلْمِ وَلم يَرْجِعُوا إِلى رُكْنٍ وثيق([5]).وهذا مقتبس من قوله(عليه السلام) في نهج البلاغة: ((الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق))([6]).
3- نأنأ: نَأْنَأَه إِذا أَحسنَ غِذَاءَه، ونَأْنَأَه عَن الشيءِ إِذا كَفَّه، نَأْنَأَةً إِذا نَهَيْتَه عمَّا يُرِيد وكَفَفْتَه، يُقَال: تَنَأْنَأَ الرجُلُ إِذا ضَعُفَ واسْتَرْخَى، بعد ذلك يورد استعمال الإمام(عليه السلام) لها: وَمن ذَلِك قولُ عَلِيَ (عليه السلام) لسُلَيْمَانَ بْنِ صُرَد، وَكَانَ قد تَخلَّف عَنهُ يَوْم الجَمَل ثُمّ أَتاه بعدُ، فَقَالَ لَهُ:! تَنَأْنَأْتَ وتَرَاخَيْتَ، فكيْفَ رأَيْتَ صُنْعَ اللَّهِ؟ يُرِيد ضَعُفْتَ واستَرْخَيْتَ([7]).
والأمثلة كثيرة لايسع المقام لذكرها، ولكن سنورد المزيد منها على شكل حلقات متواصلة لبيان أثر الإمام علي( عليه السلام) في اللغة والأدب إن شاء الله.
([1]) ينظر: تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ)، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية : 1/ 285- 288.
([4]) مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)،تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ - 2001 م: 2/ 469.