البَاحِث: سَلَام مَكِّي خضيّر الطَّائيّ.
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق والمرسلين، أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّاهرين، واللّعن الدَّائم على أعدائهم ومبغضيهم وناكري حقّهم، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيام يوم الدِّين...
أمَّا بعد:
فإنَّ معرفة الإنسان بربّه (عزَّ وجلّ) مقرونة بمعرفة نفسه، وذلك فإنَّ من اطّلع على نفسه فعرفها بكثرة عيوبها ونقصاناتها وفقرها إلى كمالات خارجة عن ذاتها ليست لها من حيث هي هي، بل يحتاج لها إلى استعدادات مترتبة حتَّى يفاض عليها بحسب استحقاقها حالًا بعد حال، ثم علم كيفية تنقل قوته العاقلة في المراتب المذكورة أمَّا بحسب ذوق العرفان أو بحسب سوق البرهان، فقد استلزم ذلك معرفته لربّه بحسبهما استلزامًا ضروريًّا[1]، فروي عن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)[2].
فإنَّ الإمام (عليه السَّلَام) في كلامه هذا قدَّم معرفة الإنسان نفسه على معرفة ربّه سبحانه، فإنَّه لم يقل: من عرف ربّه عرف نفسه، فهذه الكلمة خرجت منه (عليه السَّلَام) مخرج التَّأديب والحث على جماع مكارم الأخلاق واقتناء الفضائل واكتسابها والتَّحلِّي بها، وذلك إن الانسان عندما يعرف نفسه بكثرة عيوبها ونقصانها وحاجتها إلى التّكميل وما عليها من واجبات مترتّبة عليها وأصبحت مقصّرة فيها، كان ذلك داعيًا له على اصلاح قوتيه العملية والنّظريّة[3].
فمعرفة النَّفس تُعد أهم رادع لرغباتها، وهذه المعرفة تجعل من الإنسان العارف لنفسه بكلّ تفاصيلها أكثر التزامًا من غيره بالحدود الإلهية المرسومة له وعدم تجاوزها ويصبح حذرًا وكثير الخوف من عذاب الله (عزَّ وجلّ) الذي أعدّه للذين يتجاوزون حدوده ويأكلون حقوق الآخرين وغيرها ويخشاه في الصَّغيرة والكبيرة، فهذا كان بسبب معرفته لنفسه، وهذا ما يؤكّده ما روي عن سيِّد الموَّحّدين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (أكثر النّاس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه)[4].
ثم إنّ الإمام (عليه السَّلَام) نبّه على وجوب معرفة الإنسان نفسه بعد ذكرها بأنّها أقرب قريب إليه، إذ يحتاج في معرفتها إلى طلب زائد، هي وسيلة إلى الغاية المطلوبة للكلِّ الواجبة على الاطلاق، وهي معرفة الصَّانع وهذا شأن الإنسان المؤدب الفطن الحاذق أن يعين مطلوبه أولا لمن يؤدّبه عليه، ثم إنَّه (عليه السَّلَام) ينبّهه على حسنه ووجه وجوبه عليه، وإنَّه (عليه السَّلَام) وليس مقصوده الأَوَّل ههنا هو التّنبيه على وجوب معرفة الله سبحانه، ولو أَنَّه (عليه السَّلَام) قدّم معرفة الله تعالى لفات الغرض المذكور من الكلمة، وهو معرفة الإنسان نفسه عند مراجعتها، وبعد أن عرف نفسه لا بد له من أن يعرف ربّه سبحانه ويخشاه ويطلب منه الهداية إلى طرق النَّجاة[5].
فمن لا يعرف نفسه ويجهل عيوبها وتقصيرها، كيف يعرف حدود الله (سبحانه وتعالى) الشَّرعية وأوامره التي وجب الالتزام بها ويخشى عظمته؟ فروي عن الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه؟!)[6].
ففي الختام جعلنا الله تعالى من العارفين لأنفسنا والملتزمين بحدود الله الشَّرعيَّة وعدم تجاوزها ومن السائرين على سبيل رسوله مُحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، وآل بيته الأطهار (عليهم أزكى الصَّلَاة والسَّلَام) إنَّه سميعٌ مُجيب...
الهوامش:
[1] ينظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، ابن ميثم البحراني: 57.
[2] الصّراط المُستقيم، علي بن يونس العاملي النباطي البياضي :1/156.
[3] ينظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، ابن ميثم البحراني: 58.
[4] موسوعة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) في الكتاب والسُّنَّة والتَّاريخ، مُحمَّد الريشهري: 10/79.
[5] ينظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، ابن ميثم البحراني: 58.
[6] عيون الحكم والمواعظ، عليّ بن مُحمَّد الليثيّ الواسطيّ: 329.