فدك...  بين النحلة والقضية

مقالات وبحوث

فدك... بين النحلة والقضية

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 15-08-2019

خُطَى الخُزَاعي
ما إن أُطبقت أشفار الرسول المقدسة معلنةً عن التحاقه بالرفيق الأعلى، حتى بادر حزب الانقلاب المستلِب للمقام الإلهي بابتداع حزمة هوجاء من القرارات المتقاطعة والنهج النبوي؛ تأصيلًا منهم لعملية التغيير الممنهج للدين القويم تدريجيًّا ومرور الزمن، وتصدَّرت الشؤون المرتبطة بأصحاب الحق المصادَر في خلافة الأمة قائمة التغيير المبتدَع تلك، لتكون عائدية فدك أول وأبرز خرق عملي سافر من جهة المنتحلين يبرز على الساحة بعد سيطرتهم على زمام الحكم، ((وفدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله، (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، في سنة سبع صلحًا؛ وذلك أنَّ النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، لمَّا نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلث واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي ممَّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة ))([1])، ولأجل أنَّها كانت خالصة له (صلى الله عليه وآله وسلم) دون المسلمين أمره الله تعالى بإنحالها لقرباه، وممَّا رويَّ في ذلك أنَّه لمَّا نزلت هذه الآية {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (الاسراء:26) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت له، فقال: يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله): هذه فدك هي ممَّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصةً دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك([2])، وأيضًا ((عن أبي مريم الأنصاري وأبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: لمَّا نزلت هذه الآية {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (الاسراء:26)، قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فأعطاها فدكًا، قال أبان بن تغلب: قلت لجعفر بن محمد: مَن رسول الله أعطاها؟ قال: بل الله أعطاها))([3])، فأراد الله سبحانه وتعالى بنحلة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) فدكًا بوساطة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) اظهار عنايته بها وإكرامها؛ بوصفها المصداق الأصدق لقربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بتأمين حياتها واستقلاليتها في شؤونها وحاجاتها بعيدًا عن الآخرين، لتتحول بعد الاستيلاء عليها من لدن حكومة السقيفة إلى قضية تستبطن تجريم المنقلبين على الأعقاب في سلب الحقوق وعلى رأسها حق أمير المؤمنين في خلافة الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليهما وآلهما)، وتحت عنوان فدك القضية جرت محاورات ومجادلات بين أمير المؤمنين والزهراء (صلوات الله وسلامه عليهما) من جهة وبين السلطة الغاصبة من جهة أخرى، أسهمت في فضح عوار المنتحلين، وجرأتهم على تبديل أحكام الله تعالى جهرة، وتأسيسهم لعملية الإحداث والابتداع في الدين، وبالنتيجة عدم أهليتهم والمقام الذي تصدّوا له، وممَّا نقل من كلام لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) محاججًا أبي بكر بن أبي قحافة بشأن فدك: ((أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه، ادعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة على ما في يدي؟ وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادَّعوا عليَّ كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم  إلى أن قال: وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر))([4])، وممَّا نقل ايضًا من كلام للزهراء (صلوات الله وسلامه عليه) مع أبي بكر بحضور عمر مذكِّرَةً إياهما حقها وولدها في فدك أمرًا من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومبيِّنةً لهم مصارف الخمس والفيّ، ومعرِّفة بمستحقي عناوينها من يتامى ومساكين وأبناء السبيل، ليردَّ عمر معترضًا على حكم الله بقوله:  فدك لك خاصة، والفيء لكم ولأوليائكم، ما أحسب أنَّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرضون بهذا، فتجيبه الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها): فإنَّ الله رضي بذلك ورسوله رضي له، وقسَّم على الموالاة والمتابعة، لا على المعاداة والمخالفة([5])، يضاف إلى ذلك بأنَّ المغتصبين قد فشلوا كذلك في تقديم علةٍ مقنعة في استئثارهم بفدك لجمهورهم ومن تابع نهجهم، الأمر الذي جعل من الحكومات التي أعقبتهم متذبذبة في شأن فدك بين الردِّ والمنع([6])، ومن الجدير بالبيان أنَّ أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لم يسترجع فدكًا أبان حكومته فهو سيد عترة ما أعارت حطام الدنيا يومًا التفاتة، وهذا يفصح بدوره أنَّه ما ذكرها حين ذكرها وكان مقصده عنوانها المادي ومردودها الاقتصادي؛ بل جعل والزهراء (صلوات الله وسلامه عليهما) من فدك قضية كنَّيا بها عن أعظم مخالفة ارتكبت في تاريخ الخلق، عاملَين بما استطاعا تدارك الأمور بتنبيه الأمة وإيقافها على خطورة آثار هذه الفتنة التي لن تنتهي عند حدود زمانها ومكانها وجيلها، محاولَين حياشتها عن طريق التيه والانحراف، ومن قوله (صلوات الله وسلامه عليه) زاهدًا في فدك الأرض دون القضية: ((بَلَى! كَانَتْ في أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّماءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك وَغَيْرِ فَدَك، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَد جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا...))([7]). والنتيجة أنَّ فدك قد تمَّت مصادرتها إلحاقًا بالخلافة بتوقيعة اقرار من غالب أمة الإسلام، الذين ضلُّوا بإقرارهم ومداهنتهم الظالمين،  ليشاركوا كذلك في إضلال الأجيال المتعاقبة وتجريعها صنوف المآسي والويلات.
وصلَّى الله على خير خلقه محمد وآل محمد الطاهرين.
الهوامش:
[1])) معجم البلدان، الحموي (ت: 626)،4/ 238.
[2])) ينظر: الأمالي، الشيخ الصدوق(ت: 381):619.
[3])) مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، محمد بن سليمان الكوفي(ت: ح 300):2/202.
[4])) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي (ت: 1104): 27/293.
[5])) ينظر: مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي( ت: 1320): 7/ 291-292.
[6])) ينظر: معجم البلدان: 4/240، الكامل في التاريخ، ابن الأثير (ت: 630هـ): 2/103.
[7])) نهج البلاغة، تحقيق: فارس الحسون: 678.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2588 Seconds