الباحث: محمد حمزة الخفاجي
الحمد لله رب العالمين الذي لا يزال قائما دائما والصلاة والسلام على سيد الخلق أبي القاسم محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين...
وبعد...
منذ أن خلق أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتبع أثر رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) إلى أن ارتحل عنه نبي الرحمة، فلم نجد في الكون بشراً سار على خطى النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) مثله (عليه السلام) حتى صار كنفس النبي فهو أولى به (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً.
فمن كلام له (عليه السلام) اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) ثم لحاقه به (فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فَأَطَأُ ذِكْرَه حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْعَرَجِ)[1].
حينما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) في فراشه كي يشغل العدو ظنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو النائم، فكان (عليه السلام) مكر الله على المشركين وقد قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[2].
جاء في تفسير القمي: (فلما أمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فناموا حول حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يفرش له ففرش له فقال لعلي بن أبي طالب افدني بنفسك، قال نعم يا رسول الله قال نم على فراشي والتحف ببردتي فنام علي على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتحف ببردته وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}[3]، وقال له جبرئيل خذ على طريق ثور، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار وكان من أمره ما كان)[4].
قوله (عليه السلام): (فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله))، أي أتبع وأقتص الأثر الذي سار عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومثلما أن علي (عليه السلام) لا يفارق النبي كذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يفارقه فهم شخص واحد ونور واحد خلقوا من طينة واحدة لذا من الطبيعي نجدهم متلازمين لا ينفك بعضهم عن الآخر، وكان (عليه السلام) يقول (ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه)، فكان (عليه السلام) يقتص أثر النبي ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) لأنه يعلم أن الله مسدده ومؤيده فما وطئت قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكانا إلا وبوركت الأرض التي وطأها، هذا هو معتقد الإمام في رسول الله (صلى الله عليه وآله).
جاء في الكافي ( ... هَاجَرَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَى الْمَدِينَةِ وخَلَّفَ عَلِيّاً (عليه السلام) فِي أُمُورٍ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ بِهَا أَحَدٌ غَيْرُه وكَانَ خُرُوجُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) مِنْ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْمَبْعَثِ وقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَنَزَلَ بِقُبَا فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مُقِيماً يَنْتَظِرُ عَلِيّاً (عليه السلام) يُصَلِّي الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وكَانَ نَازِلاً عَلَى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْماً يَقُولُونَ لَه أتُقِيمُ عِنْدَنَا فَنَتَّخِذَ لَكَ مَنْزِلاً ومَسْجِداً فَيَقُولُ لَا إِنِّي أَنْتَظِرُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وقَدْ أَمَرْتُه أَنْ يَلْحَقَنِي ولَسْتُ مُسْتَوْطِناً مَنْزِلاً حَتَّى يَقْدَمَ عَلِيٌّ ومَا أَسْرَعَه إِنْ شَاءَ الله فَقَدِمَ عَلِيٌّ (عليه السلام) والنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فِي بَيْتِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَنَزَلَ مَعَه ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) لَمَّا قَدِمَ عَلَيْه عَلِيٌّ (عليه السلام)، تَحَوَّلَ مِنْ قُبَا إِلَى بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وعَلِيٌّ (عليه السلام) مَعَه يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَخَطَّ لَهُمْ مَسْجِداً ونَصَبَ قِبْلَتَه فَصَلَّى بِهِمْ فِيه الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ وخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ ثُمَّ رَاحَ مِنْ يَوْمِه إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى نَاقَتِه الَّتِي كَانَ قَدِمَ عَلَيْهَا وعَلِيٌّ (عليه السلام) مَعَه لَا يُفَارِقُه يَمْشِي بِمَشْيِه ولَيْسَ يَمُرُّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) بِبَطْنٍ مِنْ بُطُونِ الأَنْصَارِ إِلَّا قَامُوا إِلَيْه يَسْأَلُونَه أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ خَلُّوا سَبِيلَ النَّاقَةِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ فَانْطَلَقَتْ بِه ورَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَى وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى بَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) الَّذِي يُصَلَّى عِنْدَه بِالْجَنَائِزِ فَوَقَفَتْ عِنْدَه وبَرَكَتْ ووَضَعَتْ جِرَانَهَا عَلَى الأَرْضِ فَنَزَلَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وأَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ مُبَادِراً حَتَّى احْتَمَلَ رَحْلَه فَأَدْخَلَه مَنْزِلَه ونَزَلَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وعَلِيٌّ (عليه السلام) مَعَه حَتَّى بُنِيَ لَه مَسْجِدُه بُنِيَتْ لَه مَسَاكِنُه ومَنْزِلُ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَتَحَوَّلَا إِلَى مَنَازِلِهِمَا.
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) جُعِلْتُ فِدَاكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) حِينَ أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَيْنَ فَارَقَه فَقَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَى قُبَا فَنَزَلَ بِهِمْ يَنْتَظِرُ قُدُومَ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَقَالَ لَه أَبُو بَكْرٍ انْهَضْ بِنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ فَرِحُوا بِقُدُومِكَ وهُمْ يَسْتَرِيثُونَ إِقْبَالَكَ إِلَيْهِمْ فَانْطَلِقْ بِنَا ولَا تَقُمْ هَاهُنَا تَنْتَظِرُ عَلِيّاً فَمَا أَظُنُّه يَقْدَمُ عَلَيْكَ إِلَى شَهْرٍ فَقَالَ لَه رَسُولُ الله ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) كَلَّا مَا أَسْرَعَه ولَسْتُ أَرِيمُ حَتَّى يَقْدَمَ ابْنُ عَمِّي وأَخِي فِي الله عَزَّ وجَلَّ وأَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي إِلَيَّ فَقَدْ وَقَانِي بِنَفْسِه مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ واشْمَأَزَّ ودَاخَلَه مِنْ ذَلِكَ حَسَدٌ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) وكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عَدَاوَةٍ بَدَتْ مِنْه لِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) وأَوَّلَ خِلَافٍ عَلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله))[5].
إن قرب علي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومكانته وشجاعته وايمانه واخلاصه للنبي ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) قد أغضب كثيرًا من الناس حتى تحاملوا عليه فبمجرد أن ارتحل النبي ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) غصبوا منه الخلافة وهم يعلمون جيداً انه أولى منهم جميعاً بلا منافس.
جاء في الفضائل لابن شاذان أن أبا بكر قال: (أقيلوني ثلاثا فلست بخيركم وعلي فيكم)[6].
وهذا اعتراف صريح على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خير الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا لا شك فيه وكيف لا وهو نفس النبي ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) وهل ينكر أحد يوم غدير خم حينما قال النبي (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والي من واله وعادي من عاده)، وهذا الحديث قد رواه الخاصة والعامة وهو حديث متواتر لا يشك به إلا ضال مضل.
وفي الختام نسال الله العلي القدير أن يمن علينا بالخير والبركة والعافية بفضل محمد وعترته الطاهرة.
الهوامش:
[1] - نهج البلاغة، الخطبة: 236، تحقيق صبحي الصالح: 356.
[2] - سورة الأنفال: 30.
[3] - سورة يس: 9.
[4] - تفسير القمي: 1 / 275.
[5] - الكافي: 8 / 339 – 340.
[6] - الفضائل: 133.