الباحث: سَلَام مَكّيّ خضَيّر الطَّائِيّ
الحمد الذي واهب الأنعام، والصَّلَاة والسَّلَام على مُحَمَّد وآله خير الأنام، واللعن الدَّائم على أعدائِهم الظُّلَّام...
أمَّا بعد:
فإنَّ هناك العديد من الصَّحابة والتَّابعين الذين ساروا على النهج الصحيح وسلكوا الطريق المستقيم الذي فيه نجاة الأُمَّة وهو طريق مُحَمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السَّلَام) الذين هم سفينة نجاة الأمة في الدنيا والآخرة، ومن هؤلاء الذين سلكوا هذا الطريق الصحيح وتمسَّكوا به ولم يضلّهم أعداء النَّبيّ مُحَمَّد وآل بيته الأطهار (صلوات الله تعالى عليه وعليهم أجمعين)، هو الصَّحابي: (رُشَيد الهُجَرِي (رضوان الله تعالى عليه)).
نظرة في حياته (رضوان الله تعالى عليه):
اسمه ونسبه (رضوان الله عليه):
رُشيد بن عقبة الهَجَري[1]، وكان مولى لبني معاوية بطن من الأوس[2]، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) الواعين الرَّاسخين، وعُدَّ من أصحاب الإمام الحَسَن والإمام الحُسيَن (عليهما السَّلَام) أيضاً[3].
لقبه (رضوان الله عليه):
لُقِّب رُشَيد (رضوان الله تعالى عليه) بـ(الهُجَرِي) نسبة إلى سكنه في محلة (الهجريين) في البصرة، فعرف باسم (رُشَيْد الهَجَري)[4]
كنيته (رضوان الله تعالى عليه):
كان (رضوان الله عليه) يكنَّى بـ(أبي عبد الله) وهي كنية كناه بها النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يوم أحد، عندما لقي رجلا من المشركين من بنى كنانة مقنّعا في الحديد يقول: (أنا ابن عويف)، فتعرّض له سعد مولى حاطب فضربه ضربة جزّله باثنتين، ويقبل عليه رُشيد فيضربه على عاتقه، فقطع الدّرع حتى جزّله باثنتين، ويقول: خذها وأنا الغلام الفارسي، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) له: ((هلا قلت: خذها، وأنا الغلام الأنصاري!)) فتعرّض له أخوه، قال: (أنا ابن عويف)، ويضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه، ويقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري، فتبسّم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقال: ((أحسنت يا أبا عبد الله، فكناه يومئذ ولا ولد له)))[5].
صفاته (رضوان الله تعالى عليه):
كان الصَّحابيّ رُشَيد الهُجري (رضوان الله تعالى عليه) من الصحابة الذين رسخ حُبّ أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) وولاؤه في قلوبهم وتفانوا من أجل هذا الحبّ والولاء لما فيه من فوز عظيم في الدّنيا والآخرة، فقد روى الذهبي عن الشعبي: أنَّ قيس الأرقب قال له: (فهل تعرف رشيد الهجري؟ قال الشعبي: نعم بينما أنا واقف في الهَجَريِّين إذ قال لي رجل: هل لك في رجل يحب أمير المؤمنين؟ قلت: نعم، فأدخلني على رشيد[6].
وكان من حواريي أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) وكان (عليه السَّلَام) يعظّمه ويُسمّيه (رُشيد البلايا)، واخترقت نظرته الثاقبة النافذة ما وراء عالم الشهادة، فعُرف بعالِم (البلايا والمنايا)، وهذه التسمية قد انفرد بها وحده من بين سائر أصحاب الإمام (عليه السَّلَام)، فكان في حياته إذا لقي الرجل قال له: (يا فلان تموت بميتة كذا وكذا، وتقتل أنت يا فلان بقتلة كذا وكذا)، فيكون كما يقول رشيد![7].
وكان (رضوان الله تعالى عليه) قويّ الإيمان صابرًا مُحتسبًا لا يرهبه ظلم السلطة الجائرة التي كانت تبغض أهل بيت النّبوَّة (عليهم السَّلَام)، سواء في زمن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أو بعد شهادته (عليه السَّلَام)، وما يبرهن كلامنا هذا ما قاله له الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) يوماً إذ إنَّه أخبره بكيفية قتله على يد جلاوزة السلطة الأموية الغاصبة، فقال له الإمام (عليه السَّلَام): (((كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أُميّة، فقطع يديك ورجليك ولسانك))؟ قال: أيكون آخر ذلك إلى الجنّة؟).
وهكذا ترجم عظمة الصَّبر، ودلَّ على صلابته في محبّته أمير المؤمنين (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، ولمّا آن ذلك الأوان فعل زياد بن أبيه فعلته، ولم يتنازل رُشيد (رضوان الله عليه) عن الحقّ إلى أن أُستشهِد وصُلِب[8].
شهادته (رضوان الله تعالى عليه):
إنَّ أمر شهادة حواري أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) الصَّحابي رُشَيد البلايا والمنايا، قد أخبره بها أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) وحتى بكيفية شهادته (رضوان الله تعالى عليه)، وهذا فإنَّ بعد شهادة أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، بدَأ معاوية بن أبي سفيان بسبّ أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) وبتتبّع أثر شيعته ومواليه (عليه السَّلَام) لا سيما الصَّحابة الخلَّص، كرشيد الهُجري (رضوان الله تعالى عليه) والصَّحابي ميثم التَّمار وأمثالهما، وكما أسلفنا آنفًا أن رُشَيد الهُجَرِيّ كان يعلم المنايا والبلايا ويؤمن برجعة الإمام عَلِيّ بن أبي طالبٍ (عليه السَّلَام)، ولكن أتباع بني أمية اعتبروه كفراً لأنه يقول برجعة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)، فحرَّفوا عنه حديثاً ليتهموه والحديث هو أن رُشَيد الهُجَرِيّ (رضوان الله تعالى عليه) قال: (خرجت حاجًّا فلمَّا قضيت نسكي قلت لو أحدثت عهدا بأمير المؤمنين، فمررت بالمدينة فأتيت باب [الإمام] عَلِيّ [(عليه السَّلَام)] فقلت لإنسان: استأذن لي على سيِّد المسلمين [(عليه السَّلَام)]، فقال: هو نائم وهو يظن اني أعني [الإمام] الحَسَن [(عليه السَّلَام)]، فقلت: لست أعني [الإمام الحَسَن [(عليه السَّلَام)]، إنَّما أعني أمير المُؤمنين [(عليه السَّلَام)] وإمام المُتَقِين وقائد الغرّ المُحجَّلين، قال أو ليس قد مات؟ فقلت أما والله إنّه ليتنفس الآن بنفس حي ويعرق من الدّثار الثَّقيل، فقال أما إذا عرفت سرّ آل مُحَمَّد [(صلَّى الله عليه وآله)] فادخل وسلِّم عليه واخرج فدخلت على أمير المؤمنين [(عليه السَّلَام)] فأنبأني بأشياء تكون، فقلت لرُشيد إن كنت كاذبًا فلعنك الله وقمت، وبلغ الحديث زيادًا فبعث إلى رُشيد [(رضوان الله عليه)]...)[9]، وبهذه الطريقة ساعدوا معاوية على قتله (رحمه الله)، فقام معاوية (لعنه الله تعالى) بقتل هذا الصَّحابي الجليل الفذ المتفاني في حبّه وتضحيته لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، كما أخبره بها مولاه أمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، روت ابنته عن أبيها رُشيد الهجَرَي أنه قال: (قال لي حبيبي أمير المؤمنين (عليه السَّلَام): ((يا رُشيد، كيف تجدك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أُميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أيكون آخر ذلك إلى الجنّة؟ قال (عليه السَّلَام): نعم يا رُشيد، وأنت معي في الدُّنيا والآخرة)).
قالت: فوَالله ما ذهبت الأيّام حتى أرسل إليه الدَّعيّ عبيد الله بن زياد –لعنه الله تعالى-، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، فأبى أن يتبرّأ منه، فقال له ابن زياد: فبأيّ ميتة قال لك صاحبك تموت؟
قال: أخبرني خليلي (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) أنّك تدعوني إلى البراءة منه (عليه السَّلَام) فلا أتبرّأ، فتقدّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني.
فقال: والله لأُكذّبنَّ صاحبك، قدّموه فاقطعوا يده ورجله واتركوا لسانه، فقطعوهما ثمّ حُمِلَ إلى منزلنا، فقلت له: يا أباه جُعلت فداك، هل تجد لما أصابك ألماً؟ قال: لا والله لا يا بُنية إلاّ كالزُّحام بين النَّاس.
ثمّ دخل عليه جيرانه ومعارفه يتوجّعون له، فقال: ايتوني بصحيفة ودواة أذكر لكم ما يكون ممّا علمنيه مولايّ أمير المؤمنين (عليه السَّلَام).
فأتوه بصحيفة ودواة، فجعل يذكر ويُملي عليهم أخبار الملاحم والكائنات ويسندها إلى أمير المؤمنين (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، فبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إليه الحجّام حتى قطع لسانه، فمات من ليلته تلك رحمه الله)[10]، فرحم الله تعالى هذا الصَّحابي الصَّابر المحتسب، وجعله مع الشُهَداء السُّعداء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، ونسأله أن يجعلنا مع نبيّه مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ في الدُّنيا والآخرة إنَّه سميعٌ مُجيب...
الهوامش:
[1] جواهر التأريخ، الشَّيخ علي الكوراني العاملي: 3/411.
[2] الجرح والتعديل، أبو حاتم الرازي: 3/506.
[3] موسوعة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) في الكتاب والتأريخ والسُّنَّة، محمَّد الرّيشهري: 12/109.
[4] ينظر: جواهر التأريخ، الشَّيخ علي الكوراني العاملي: 3/411.
[5] الاستيعاب، ابن عبد البر: 2/496.
[6] تذكرة الحفَّاظ، الذهبي: 1/84.
[7] جواهر التأريخ: 2/411.
[8] موسوعة الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه): 12/110.
[9] تذكرة الحفَّاظ، الذهبي: 1/84.
[10] المحتضر، حسن بن سُليمان الحلّيّ: 154.