الحكومة بين صلاح الحاكم واستقامة الشعب

مقالات وبحوث

الحكومة بين صلاح الحاكم واستقامة الشعب

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-11-2019

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
هناك ترابط وثيق بين الحاكم والرعية في استقامة الدولة وتنميتها؛ ذلك أنَّ الحكومة تعتمد على طرفين لابدَّ منهما: الشعب والسلطة متمثلة بالحاكم، ولا يمكن صلاح أحدهما مع فساد الآخر، فلا تنتظر الأمَّة من حاكمها الصلاح وهم في غمرة الفساد غارقون، وكذلك الحاكم فإنَّه لا ينتظر من أمَّته الصلاح والامتثال للقانون وتطبيق النظام مالم يكن صالحًا مؤدِّيًا الذي عليه، والنتيجة أنَّ الإحسان يجب أن يكون باديًا من الطرفين لتستقيم معادلة الصلاح وتنمو عزيزةً بين أبناء الأمَّة، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ))([1])، وإذا ما أراد طرفي الحكومة تحقيق الصلاح في المجتمع وجب عليهما تنفيذ حقوق والتزامات موجبة على كلِّ منهما للآخر، وقد أكَّد هذا المعنى أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى الْوَالِي، فَرِيضةً فَرَضَهَا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ لِكُلّ عَلَى كُلٍّ))([2])، وهنا أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل الحقوق المتبادلة بين الحاكم والشعب من أعظم الحقوق عند الله تعالى، وذلك لكونها مقدِّمة لاستقامة الأمَّة وصلاحها، ولو أنَّ الحاكم والشعب التزم كلٌ منها بما عليه من حقوق وواجبات اتِّجاه بعضهم بعضًا فإنَّ ذلك سيؤدِّي إلى استقامة الدِّين وشيوع الحق بين الناس، وسيادة العدل بين الرعية، وكلُّ ذلك يؤدِّي إلى صلاح الزمان، وهذا المعنى أشار له أمير المؤمنين عليه السلام) بقوله: ((فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ))([3]) . أمَّا لو تنافرت الطرفان فغلب الشعب حكومته، أو ظلم الحاكم رعيته فإنَّ ذلك إنذار بالدمار والشغب وحلول الفوضى، وتغلب الأشرار على الأخيار، ممَّا يؤدِّي إلى الاستهانة بالدِّين وبالدماء، وإلى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الأدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ))([4]) . وإلى هنا فقد بان أنَّ المسؤولية متعلِّقة بالطرفين معًا، ولا تستقيم بطرفٍ دون الآخر، وقد حكى لنا التاريخ عن صلاح قادةٍ في التاريخ ولكنَّهم عاشوا في أممٍ لم تكن تتمتَّع بالصلاح؛ ولذلك خذلتهم شعوبهم وسلموهم إلى القتل والمأساة، وخير من يمثِّل ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان في أوجِّ نطاق الصلاح؛ ولكنَّه مُني بقومٍ غالبهم همج رعاع ينعقون مع كلِّ ناعق، ومع ذلك حاول إصلاحهم بشتَّى الوسائل ولكن لم يجبه إلَّا القليل، وهذا حال الصُلحاء المؤمنين في أغلب العصور، وكذلك لو كانت الأمَّة في غاية الصلاح وتسلَّط على مقاليدها حاكم فاسد لا يرعى الله تعالى فيهم، ينهب حقوقهم ويستولي على ثرواتهم، فإنَّ ذلك سيكون خاتمته الخسران، ومن هنا يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) كلا الطرفين (السلطة، الشعب) بالتناصح والتعاون على إقامة الحق، ولزوم طريق الصلاح فيقول: ((فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ ـ وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ ـ بِبَالِغ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى العِبَادِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَ امْرُؤٌ ـ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ ـ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ ـ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ ـ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ))([5]) .
يظهر ممَّا سبق أنَّ المسؤولية تعاونية بين الطرفين، بين الحاكم والشعب، فلا يمكن أن يشيع العدل وتسود القانون بطرفٍ دون آخر، فلا الحاكم بمفرده يستطيع بناء مجتمعٍ صالح من دون تعاون الأمَّة معه، ولا الأمَّة قادرة على بناء الصلاح والحاكم منهمك في ملذاته وجوره على الشعب .
اللهمَّ لا تُسلِّط عليها من لا يخافك ولا يرحمنا،  اللهمَّ عجِّل فرج إمامنا وفرجنا به يا ربِّ العالمين ...
الهوامش
([1]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 333
([2]) المصدر نفسه .
([3]) المصدر نفسه .
([4]) المصدر نفسه: 333 – 334 .
([5]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 334 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2773 Seconds