أنَّى زَحزَحوها

مقالات وبحوث

أنَّى زَحزَحوها

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-12-2019

خُطَى الخزاعي
(... فانظروها تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دمًا عبيطًا وذعافًا ممقرًا، هنالك خسر المبطلون وعرف التالون غب ما أسَّس الأولون، ثم طيبوا بعد ذلك نفسًا، واطمئنوا للفتنة جأشًا، وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدًا، وجمعكم حصيدًا، فيا حسرتي لكم، وكيف بكم وقد عميت عليكم؟ (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون))([1]).
على فراش العلة وتكاثر الألم واللوعة تأبى الرحيل قبل أن تختم نهضتها بوحي كلمات، كانت أشبه بدقات نواقيس منبئةً عن خطر قد لاح واستبانت معالمه، مسخرة بقية قدرة ولحظات بعدٍّ عكسي إلى النهاية في توعية القوم وتبصرتهم بنتاج الفتنة التي قد تصافقوا جميعًا كلٌّ بحسبه على حبكتها، مُقدِّمة لبارئها آخر الأعذار في الإنذار.
إنَّ نهضة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) كانت نوعية استثنائية بكل المقاييس إذا ما استندت هذه المقاييس على معايير من الموضوعية والحيادية، فمن الحجود أن تُتناول هذه النهضة بسطحية جوفاء تقصر عن الوصول إلى جوهرية الهدف وفلسفة القيام، ليكون حاصلها أحكامًا تتبع مقدماتها ضعفًا وبطلانًا، فتقزِّم القضية وتشخصن النهضة.
فمن المؤلم أن لا يعلم الآخر من سيرة الزهراء (صلوات الله عليها) سوى أنَّها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يثقف باتجاه أنَّها امرأة اعتيادية كسائر النساء تحتاج إلى التذكير والاهتمام بالعمل، فكان يقول مثلًا ((.. لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ ...))([2])، وحديث آخر ينبه فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) بالاعتماد على عملها وعدم التعويل على قرابتها منه بقوله:((... يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، اعْمَلَا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))([3])، وأنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخاف عليها الفتنة في الدين عندما قال: ((إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا))([4])، فينهي بمقولته هذا حدثًا كاد أن يقع كذبًا وتزويرًا، وغيرها من الآثار المدونة في كتب القوم، والمُلَقنَة لناشئتهم، والمعتمد عليها بوصفها مقدمات في الحكم على الزهراء أولًا ونهضتها ثانيًا.
ومن مقطع كلامها الذي انتخباه وجعلناه مقدمة الكلام، نقتطف قراءة على قدرنا نستشعر بها شيئًا من مقامها العالي وأصل نهضتها السماوي، فالكلام تضمَّن إخبارًا للخاذلين برسالة تمتد إلى الأجيال عن طريق مخاطباتها المباشرات([5]) باخبارات قطعية عمَّا ستنتجه هذه الفتنة في القابل من عدم استتباب الأمر واستشراء الفتن والاضطرابات والتعديات، وتترك الزهراء (صلوات الله عليها) للزمن مهمة تصديق نبوءتها، فتنبري أربعة عشر قرنًا من الزمان إلى ما شاء الله بتوثيق ما حذّرت منه من تداعيات مريرة متفرعة عن تلك الفتنة، ولسائل يسأل من أين للزهراء أن تخبر بمغيبات ما كانت لها معطيات في ذلك الوقت، وهل يتناسب هذا والحكم بارتجالية التحرك ضد السلطة اللاشرعية تأثرًا بالظرف المستجد؛ وما علاقة ما ذكرته من أمور ستتعرض لها الأمة كافة إذا كان هدف التحرك محدودًا شخصيًا، فيأبى الوجدان تسنده الموضوعية إلّا أن يحكم بأنَّ النهضة كانت مقروءة ومعدًّا لها بكل تفاصيلها، وأنَّ الهدف كان ذا أثر نوعي، فحوى من الشمولية والاتساع ما جعله يمتد خارج نطاق زمانه ومكانه وجيله، وهو من سنخ أهداف رسالات السماء، وجزمًا أنَّ من ينتخب لمثل هكذا دور تتبناه السماء لابدَّ أن يكون ذاتًا مميزة مصطفاة، وهذا من ضروريات ما نعتقده بحقها (صلوات الله وسلامه عليها)، ويكفي شأنها علوًا قول الرسول (صلى الله عليه وآله فيها) فيها: ((إنَّ الله يرضى لرضاكِ ويغضب لغضبكِ))([6])، فرضا الله تعالى منوط برضاها وغضبه بغضبها، فهل يحق لأحد بعد مثل هذه التزكية العالية من لدن {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) أن لا يعطي للزهراء (صلوات الله عليها) المكانة المنسجمة مع منطوق الحديث الشريف على أقل تقدير من دون الغور ومقاصده العميقة، ولمن يأبى إلّا أن يجعل الزهراء (صلوات الله عليها) دون المكانة والشأن، مضيعًا سبيلًا قويمًا إلى الله تعالى فسنقولها لمن قصَّر في حقها كما قالتها يومًا بزفرة (أنَّى زحزحوها).
الهوامش:
[1])) معاني الأخبار، الشيخ الصدوق (ت: 381): 355.
[2])) كتاب البخاري، البخاري : 8/160
[3])) المسند، الشافعي (ت: 204): 1/29.
[4])) سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث (ت: 275): 2/225.
[5])) نساء المهاجرين والأنصار، الأمالي، الشيخ الطوسي (ت: 460): 376.
[6])) الإصابة في تمييز الصحابة، العسقلاني (ت: 852هـ): 8/265.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2841 Seconds