عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
أمَّا بعدُ فقد وقف الإسلام موقفًا شديدًا من ترويع الآمنين، وحذَّر من ذلك بوسائل كثيرة على كافة سبله التشريعية، وقد شرَّع عقوباتٍ شديدة لمن يسعى لترويع المؤمنين بأيِّ شكلٍ من الأشكال؛ بل بأيِّ سبيلٍ يؤدِّي إلى إخافة النَّاس وارتباكهم واختلال أنظمتهم الحياتيَّة، ومن أشكال الترويع القديمة الحديثة نشر الشائعات التي ترعب النَّاس وتثير مخاوفهم، وقد استعملت هذه الوسيلة في الحروب المعنوية، وهي من أخطر الأساليب في إثارة الأمراض النفسية والهلع بين النَّاس، وفي حال انتشارها فإنَّه ستتخلخل جميع أنظمة البلاد وأهمَّها الأنظمة الاقتصادية؛ لأنَّ النَّاس ستلجأ إلى تخزين المواد الغذائيَّة، فترتفع السلع في الأسواق، ويلجأ المستثمرين إلى بيع أسهم شركاتهم بعد أن تشهد خسائر متعدِّدة نتيجة عزوف النَّاس عن كلِّ شراء سوى المواد الغذائية، وما يتوفَّر من أموالٍ فإنَّ النَّاس ستسعى إلى تخزينها للطوارئ المحتملة وبذلك ستتوقف كلُّ مرافق الحياة، وتكون النتيجة شل جميع أنظمة البلاد وهذا ما يسعى إليه العدو من إثارة الشائعة، ومن هنا فإنَّ الشائعات حروب مدمِّرة لا تقل فاعليتها عن أعتى الأسلحة الفتَّاكة؛ ولذلك اتَّخذ الإسلام موقفًا شديدًا وحاسمًا حازمًا من الشائعات ومروجيها؛ لما ينتج عنها من آثار سلبية تزلزل كيان المجتمع وتؤثر على تماسكه وتلاحم أبنائه.
أمَّا معنى الشائعة فهو الخبر المكذوب، أو غير الموثوق فيه، ينتشر بين النَّاس وقد لا يكون له أصلٍ، أو يكون له أصل إلَّا أنَّه ضُخِّم وأُضيف إليه أشياء أُخرى، وعلى ذلك تكون الشائعة إمَّا خبر لا أساس له من الصحة، وإمَّا خبر صحيح أُضيفت له معلومات غير صحيحة، عن طريق تفسيره بشكلٍ مغلوط، أو إعطائه حجمًا أكبر من حجمه الطبيعي، وكلُّ ذلك يؤدِّي إلى اختلال نظام النَّاس وخوفهم وهلعهم . أمَّا كيفيَّة انتشار الشائعة فتكون بسبلٍ شتَّى وأهمَّها الأدوات الإعلاميَّة المأجورة؛ فإنَّها في الوقت الحاضر أصبحت من أشرس الأسلحة التي تُوجَّه إلى بلاد المسلمين، وقد أثبتت الأيَّام بأنَّ تأثيرها أشدُّ من تأثير الحروب، فكم من حكوماتٍ وأنظمةٍ سقطت نتيجة الهجمات الإعلاميَّة مع ما تملك من جيوش وأسلحة فتَّاكة، ولكنَّها انهارت نتيجة الهجمات الإعلاميَّة التي أصبحت اليوم في غالبها بيد أعداء الإسلام والمسلمين . والوسيلة الثانية في نشر الشائعات النَّاس أنفسهم، فهم ينقلون الأخبار بوعي أو من دون وعي، وهناك من النَّاس من يُضخِّم الأخبار بطبيعته، وبذلك يكونون أحد الأساليب العاملة على نشر الفوضى في البلاد من حيث يشعرون أو لا يشعرون .
ومن هنا فقد شدَّد الإسلام على منع تداول الأخبار من دون تثبُّت وتأكُّد، وجاء ذلك عن طريق آياتٍ قرآنيَّةٍ وجملةٍ من الأخبار الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) [النساء: 83]، والمعنى: أنَّ هناك أشخاص يُذيعون الأخبار التي يجب كتمانها سواء أكانت في الأمن أو الخوف من أجل إرعاب النَّاس وتخويفهم، وممَّا يؤيِّد ذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله): ((إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ))([1])، وقد علَّق الشيخ الطوسي على هذا الحديث بقوله: ((وما يكرهه الله تعالى لا يكون إلا محرما، ويجب المنع منه))([2])، والقيل والقال هو نقل الكلام من دون تثبُّتٍ ولا تدبُّر سوى أنَّ فلانًا قال كذا وغيره قال كذا . وإذا كانت هذه الشائعات تُثير الرعب في نفوس المسلمين فإنَّ ذلك يرفع من درجة الحذر منها، وتصبح الصرامة أشدُّ في المنع، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين عَلِيّ (عليه السَّلَام): ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلمًا))([3])، والترويع يمكن أن يأتي بكلمةٍ واحدة؛ بل يمكن أن يكون بإشارة من طرف عينٍ، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ((من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله عزَّ وجلَّ يوم لا ضلَّ إلاَّ ظلّه))([4]) . ويجب هنا التنبيه على أنَّ هذا الكلام يكون على مستوى الإشاعات والأخبار الكاذبة والمضخَّمة، وأمَّا لو كانت الأخبار صحيحة والحوادث حقيقية فإنَّ هذا الكلام لا يشملها؛ بل يصبح من الواجب توعية النَّاس بمخاطر هذه الأشياء وتنبيهم بأسلوب لا يُثير عندهم الرعب والخوف والهلع؛ لأنَّ ذلك نتيجته انهيار النظام العام للبلاد، وعلى ذلك فيجب على المسلمين في حال حدوث الأزمات توخِّي الدِّقة في نقل الأخبار والابتعاد عن كلِّ خبرٍ غير موثوق، وتوجيه النَّاس بالإرشادات السليمة، التي يبقى على رأسها التوجَّه إلى الله تعالى بالعبادة والدُّعاء من أجل رفع البلاء عن بلاد المسلمين .
والخلاصَّة نؤكِّد على ما انتهى إليه أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) في حرمة ترويع المسلمين بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وعلينا أن نأخذ الحوادث الطارئة بمحمل الجد؛ ولكن من دون إرعابٍ أو إرهاب أو تخويف أو تهويل للأحداث؛ بل يجب بث الطمأنينة في قلوب النَّاس وتذكيرهم برحمة الله تعالى مع الحذر من تسويف الأزمات أو التقليل من مضارِّها؛ وإنَّما يجب أن تكون الأمور على طبيعتها المعتادة من دون إسرافٍ في تعقيد الأمور ولا تهوينٍ بحيث تكون العواقب وخيمة.
أعاذنا الله وإيَّاكم من شرور الدُّنيا، اللهمَّ احفظ بلاد الإسلام من كلِّ سوء وبلاء بحقِّ مُحَمَّدٍ وآله الطَّاهرين...
الهوامش:
([1]) صحيح البخاري، البخاري (ت 256 هـ): 2/131 ، الخلاف، الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ): 3/288.
([2]) الخلاف: 3/288 .
([3]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111 هـ): 72/147.
([4]) شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني (ت: 1081 هـ): 10/30.