الباحِث: السَّيِّد نبيل الحَسَنِيّ الكربلائِيّ
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق والمُرسَلِين، أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين،
أما بعد:
يحاول ابن ابي الحديد أن يزج بعقيدة الاعتزال ويفرضها في التعامل مع النص الشـريف في نهج البلاغة؛ لا سيما فيما يتعلق بموضوع الإمامة والخلافة وقيادة الأمة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والنص عليها؛ أي: في كونه المنصوص عليه بالخلافة، فيقول:
((إنّ الإمام يرى نفسه أحق بالأمر، ليس على أساس النص، وإنّما على أساس الأفضلية والقرابة والسابقة والجهاد وغيرها من الفضائل)([1]).
وفي بيانه لقول الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) في خطابه لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (هذا ولم يطل العهد ولم يَخْلِقْ منك الذّكر).
قال المعتزلي: (فأما النص فإنه لم يذكره (عليه السَّلَام) ولا أحتج به، ولما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم، وحضر عندهم فبايعهم، وزال ما كان في نفسه)[2].
ونقول:
1- هذا لا يعني عدم وجود نص عنده (عليه السَّلَام)؛ بل يكشف -هنا- عن تظلّمه في إجحاد الصَّحابة لحقِّهِ، وتظافرهم عليه وعلى البضعة النَّبويَّة، وذلك أن منتج النَّص (عليه السَّلَام) لم ينطلق في خطابه مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على أساس بيان حقِّهِ في الإمامة فالمناسبة لصدور النَّص هي بيان ما جرى على البضعة النَّبويّة (عليها أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، وما جناه الصَّحابة في انتهاك حرمة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيها؛ ومن ثم ليس من اللائق أن يستغل الإمام هذه الرزية العظيمة فيتحدث عن النَّص في الإمامة، وهو المفجوع الآن بفَاطِمَة (عليه السَّلَام).
فهذا ليس من شأن عَلِيّ (عليه السَّلَام)؛ ولا هي سجيته وخلقه المُحَمَّديّ لينتهز فرصة قتل سيِّدة نساء العالمين (صلوات الله تعالى وسلامه عليها) وفي هذا الموضع عند دفنها، ليستشهد في حديثه مع صاحب المصيبة العظمى، أي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيتحدث عن النص على الإمامة!!.
بل على العكس لو فرضنا مجازا أنه نطق بالنص على إمامته في قيادة الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه المناسبة والفجيعة لقيل عنه أنه -والعياذ بالله- يجر النار الى قرصه، ويستغل الأحداث لصالحه.
ومن ثم: فنكران المعتزلي على الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) لعدم استشهاده بالنص بالإمامة في قوله «ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر» راجع الى عدم فهمه لشخصية علي بن أبي طالب (عليه السَّلَام) وتعسفاً واستبداداً برأي الاعتزال في مسألة الإمامة.
2- أما لو فرضنا أن الإمام علي (عليه السَّلَام) قد نطق بالنص على إمامته في قيادة الأمة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فإن النتيجة الطبيعية لهذا القول هو تكذيبهم ونكرانهم للنَّصّ.
بدليل:
أ- إن التجري على الله فيما جرى على بضعة سيد الانبياء (عليهما السَّلَام) أعظم من جريمة تكذيب عَلِيّ (عليه السَّلَام) فيما لو نطق بالنَّص.
ب- إنهّم قد كذَّبوا من هو أعظم من علي بن أبي طالب (عليه السلام) واتهموه بالهجر: والهذيان والتخريف -والعياذ بالله- أي: لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما طالب الصحابة قائلاً: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تظلوا بعده أبداً».
فقالوا: أي الصحابة: (هجر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟!![3]
وفي لفظ آخر أخرجة البخاري أيضاً، عن الزُّهري، عن ابن عباس: (وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب)[4]
وامتثالهم لقول عمر بن الخطاب وعصيانهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتكذيبهم لقوله؛ فإذا كان التعامل مع سيد الخلق (صلى الله عليه وآله) بهذه الطريقة كيف سيكون التعامل مع قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيما لو نطق بالنص الذي أنكره المعتزلي؛ ولهذه العلة طردهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجرته بعد أن سبقوا قوله بالتكذيب والتشكيك.
ج- في قضية فدك لم تجد بضعة النَّبِيّ (صلَّى الله عليه وآله) من يشهد لها من الصحابة مع كثرتهم أمام أبي بكر بأن فدك نحلة أبيها (صلَّى الله عليه وآله) منحها إياها لما نزل قوله تعالى: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ فقد امتنعوا من الشهادة لها سوى أم أيمن مولاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) والإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام)، فرد أبو بكر شهادتهما مدعياً أن أم أيمن امرأة وهي بحاجة الى امرأة ثانية، وأن علي بن أبي طالب هو زوجها فلا تصلح شهادتهما لهذه العلّة.
في حين أنَّ الله تعالى قد صدَّقهما في القول والفعل في آية التَّطهير، فضلًا عن أنّها صاحبة اليد في الأرض، وهي إحدى القواعد التي أسست عليها الأحكام في الاستملاك.
وعليه:
حال عَلِيّ (عليه السَّلَام) كحال فَاطِمَة (صلوات الله وسلامه عليهما) لا يصدّقهما الحاكم وأشياعه.
د- مثلما اتهم الخوارج الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) (بأنَّه يكذب) والعياذ بالله مما دعاه (عليه السَّلَام) أن يرتقي المنبر ويرد عليهم متسائلاً: «قاتلكم الله تعالى فعلى من أكذب؟! أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيّه؟ فأنا أَوَّل من صدَّق به»([5]).
والحال يجري مجراه مع النَّص فيما لو نطق به.
3- إنَّه (عليه الصَّلَاة والسَّلَام) حينما كان يريد أن يذكِّرهم بما قاله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيه (عليه السَّلَام)، كان يستحلفهم ويناشدهم على ما سمعوه منه (صلَّى الله عليه وآله).
والعلة في ذلك أنهم تعدوا حدود الله تعالى في قتل فَاطِمَة (صلوات الله وسلامه عليها) واتهموا النَّبيّ الأعظم بالهجر؛ فكيف يأمنهم علي بن أبي طالب أن يقرّوا له بما سمعوا من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
4- ليس من المستبعد جداً أنه استشهدهم واستحلفهم بصراحة النص في إمامته وإمامة ولده من بعده في الأمة، وحق الطَّاعة له؛ لكن الرواة قد حذفوا ذلك وبتروه مثلما أخفوا تكسيره للأصنام ليلة مبيته (عليه السَّلَام) على فراش النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله)؛ ومحاولة أبي بكر منع خروج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من داره([6]).
5- إنّ العلة الحقيقية في هذا التكابر على حقيقة وجود النص في الإمامة على الأمة والخلافة بعد النبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) التي اتبعها ابن أبي الحديد المعتزلي بادعائه بعدم وجود نص عند الإمام عَلِيّ (عليه السَّلام)، هي:
الدفاع عن الصحابة ونكران انقلابهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كما صرّح به في سؤاله لشيخه أبي جعفر النقيب، قائلا له:
(إنّ نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ودفع النَّص)([7])!!!
فرد عليه أبو جعفر النقيب قائلاً:
(وأنا فلا تسامحني ايضاً نفسي أن أنسب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلاّ يؤمِّر عليها أميراً، وهو حين ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث)([8]).
6- إنّ هذه الحقيقة جعلته يلجئ النَّص الصَّريح الى التَّأويل لغرض اثبات عقيدة الاعتزال في التَّفاعل مع النص؛ فيقول عند ايراده لقول أمير المؤمنين عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام): (إنَّ الأَئِمَّة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم) فيرد قائلاً: (هذا الموضع مشكل، ولي فيه نظر، وإن صح أن عَلِيّاً قاله؛ قلت:
كما قال، لأنَّه ثبت عندي أنَّ النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: (إنَّه مع الحقّ، وإنَّ الحقّ معه يدور حيث دار).
ويمكن أن يتأول ويطبَّق على مذهب المعتزلة فيحمل على أنَّ المراد به كمال الإمامة، كما حمل قوله (صلَّى الله عليه وآله): (لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد) على نفي الكمال لا على نفي الصَّحَّة)([9]).
إذن:
إنَّ النَّص موجود؛ لكن مقبوليته عند المعتزلة ترتكز على نكرانه للحفاظ على منزلة الصحابة ودفع العصيان والانقلاب عنهم.
بغية اثبات صحة دعوتهم في الاعتزال، وإن كان على حساب دعوة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في إمامة عَلِيّ (عليه السَّلَام) وخلافته على الأُمَّة.
([1]) شرح نهج البلاغة: ج10 ص270.
[2] المصدر نفسه.
[3] صحيح البخاري، باب: دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) الى الإسلام: ج4 ص31.
[4] المصدر السابق: ج8 ص161.
([5]) نهج البلاغة: ص100.
([6]) ولمزيد من الاطلاع على هذه الحقائق ينظر كتاب: ما أخفاه الرواة من ليلة المبيت على فراش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للمؤلف.
([7]) شرح نهج البلاغة: ج9 ص248.
([8]) نفس المصدر السابق.
([9]) شرح نهج البلاغة: ج9 ص84-88.