عمَّار حسن الخزاعي
أصبحت قضية الإمام الحسين (عليه السلام) معروفة على مستوى العالم، بما وهبه هذا الإمام الهمام من تضحيات يعجز اللسان عن عدِّها، بدءًا من التضحية بالنفس والأولاد والأصحاب والمال وغير ذلك، حتَّى لم يبقَ للحسين (عليه السلام) سوى رضيعه فأخذه وقدَّمه لله تعالى قربانًا بكرمٍ مغدق لم نجد له مثيلًا على مرِّ العصور، وكل ذلك شاخص في الضمير الجمعي للعالَم الواعي، ولم يكن الحسين (عليه السلام) مشخِّصًا ثورته بإطارٍ ضيِّق؛ بل منحها بعدًا عالميًّا عبر صياغة الأهداف الكبرى التي تمسُّ روح الإنسانيَّة وطبيعتها العامَّة، وهذا نجده في ثنايا صرخاته بوجه الظلم والفساد المتمثِّل بيزيد وحكومته الظالمة، ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثًا عهده مخالفًا لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيِّر عليه بفعل ولا قول, كان حقًا على الله أن يدخله مدخله))([1])، فالعمل بالإثم والعدوان بعدٌ عالميٌّ تأباه طبيعة النَّفس البشريَّة . ومن ذلك أيضًا قوله (عليه السلام): ((ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا))([2])، ومن المعروف أنَّ ثنائيَّة الحقِّ والباطل تمسُّ الضمير الجمعي للبشرية قاطبة، وأيُّ نفسٍ مهما كان انتماؤها فإنَّها بفطرتها تنجذب إلى الحقِّ وتنفر من البطل، ومن جملة الأبعاد العالميَّة التي ارتكزت عليها ثورة الحسين (عليه السلام) رفض عيش الذِّلة والمهانة الذي لا تتقبُّله طبيعة النِّفوس الحرَّة على اختلاف أمكنتها وأزمنتها، وفي ذلك يقول الإمام الحسين (عليه السلام): ((إنِّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظّالمين إلا برما))([3]) . ثمَّ يعلل الإمام الحسين (عليه السلام) ثورته بهدفٍ سامٍ تتبنَّاه كلُّ الحركات والثورات، وتفتخر به كل الزعامات، وهو طلب الإصلاح، الذي ترجوه كل الشعوب من حكوماتها وزعاماتها، وقد قال الحسين (عليه السلام) في ذلك: ((وإنِّي لم أخرج أشرًا أولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))([4]) . ومن جملة الأمور المهمَّة في عالميَّة الثورة في كربلاء أنَّ الحسين (عليه السلام) شقَّ الطريق لمن بعده، وأعطى الشرعية لمن يريد أن يتَّخذ منهجه، ولم يغلق الباب على شخصه الكريم، وفي ذلك يقول: ((مثلي لا يبايع لمثله))([5]) . فالذي يتَّخذ نهج الحسين (عليه السلام) الرافض للظلم وانتهاك الحقوق والعمل بالباطل لا يرضى بمثل يزيد حاكمًا عليه .
بعد هذه المقدِّمة التي أردنا عبرها أن نبيِّن بعض الأبعاد العالميَّة لثورة الحسين (عليه السلام) ننتقل إلى ما بعد هذه الثورة، وكيف أنَّ الأئمَّة بعد الإمام الحسين (عليه السلام) زادوا في حرارتها في ضمير الإنسانيَّة وأمدُّوا بزخمها في قلوب مناصريها، فعلموا جاهدين على بيان مآثرها ووجوب التَّمسُّك بمضامينها الفكريَّة والعقديَّة، وكانوا يوصون بكثرة في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ومعاهدة قبره على طول أيَّام السَّنة بلا كللٍ أو ملل، وقد أفضت تلك الجهود إلى ثمارٍ مباركة في نموِّ أتباعٍ ٍ للحسين (عليه السلام) وأنصار على مختلف الأزمان، يسلِّم كلُّ جيلٍ إلى الجيل الذي يليه راية النصرة وتلبية دعوة الحسين (عليه السلام): ((ألا من ناصرٍ ينصرنا؟))([6])، ومن جملة ما أثر عن أهل البيت (عليهم السلام) في دعم القضية الحسينية وزيادة زخمها في نفوس محبِّيها ومناصريها ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) من دعاء عظيم الشأن كثير المعارف واسع البيان بحقِّ زوار قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وفي ذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام): ((اللّهُمَّ يا مَنْ خَصَّنا بالْكَرامَةِ؛ وَوَعَدَنا بالشَّفاعَةِ؛ وَخَصَّنا بالوَصيَّةِ؛ وأعْطانا عِلمَ ما مَضى وعِلْمَ ما بَقيَ؛ وَجَعَلَ أفْئدَةً مِنَ النّاسً تَهْوِي إلَيْنا، اغْفِرْ لي ولإخْواني وَزُوَّارِ قَبر أبي الحسين، الَّذين أنْفَقُوا أمْوالَهُمْ وَأشخَصُوا أبْدانَهم رَغْبَةً في بِرِّنا، وَرَجاءً لِما عِنْدَكَ في صِلَتِنا، وسُروراً أَدْخَلُوهُ عَلى نَبِيِّكَ، وَإجابَةً مِنهُمْ لأمْرِنا، وَغَيظاً أدْخَلُوهُ عَلى عَدُوِّنا، أرادُوا بذلِكَ رِضاكَ، فَكافِئْهُمْ عَنّا بالرِّضْوانِ، واكْلأُهُم باللَّيلِ وَالنَّهارِ، واخْلُفْ عَلىُ أهالِيهم وأولادِهِمُ الَّذين خُلّفوا بأحْسَنِ الخَلَفِ وأصحبهم، وَأكْفِهمْ شَرَّ كلِّ جَبّارٍ عَنيدٍ؛ وَكُلّ ضَعيفٍ مِنْ خَلْقِكَ وَشَديدٍ، و َشَرَّ شَياطِينِ الإنْس وَالجِنِّ، وَأعْطِهِم أفْضَلَ ما أمَّلُوا مِنْكَ في غُرْبَتِهم عَنْ أوْطانِهِم، وَما آثَرُونا بِهِ عَلى أبْنائهم وأهاليهم وقَراباتِهم ، اللّهُمَّ إنَّ أعْداءَنا عابُوا عَلَيهم بخُروجهم، فَلم يَنْهِهم ذلِكَ عَنِ الشُّخوصِ إلينا خِلافاً مِنْهم عَلى مَنْ خالَفَنا، فارْحَم تِلْكَ الْوُجُوهَ الَّتي غَيْرتها الشَّمْسُ، وَارْحَم تِلكَ الخدُودَ الَّتي تَتَقَلّبُ علىُ حُفْرَةِ أبي عَبدِاللهِ الحسينِ عليه السّلام، وَارْحَم تِلكَ الأعْيُنَ الَّتي جَرَتْ دُمُوعُها رَحمةً لَنا، وارْحَم تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتي جَزَعَتْ واحْتَرقَتْ لَنا، وارْحَم تِلكَ الصَّرْخَةً الَّتي كانَتْ لَنا، اللّهمَّ إني اسْتَودِعُكَ تلْكَ الأبْدانَ وَتِلكَ الأنفُس حتّى تَرْويهمْ عَلى الحَوضِ يَومَ العَطَشِ الأكبر))([7]) .
وهذا الدُّعاء يحمل من المعارف الجمَّة التي لا يمكن حصرها في هذه العجالة، ولكن ما لا يدرك كلُّه لا يُترك جلُّه، وعلى ذلك سنسلِّط الضوء على بعض مضامين هذا الدُّعاء العالية بصورةٍ موجزة، ومنها:
1. بدء الإمام (عليه السلام) بمقدِّمة: ((اللّهُمَّ يا مَنْ خَصَّنا بالْكَرامَةِ؛ وَوَعَدَنا بالشَّفاعَةِ؛ وَخَصَّنا بالوَصيَّةِ؛ وأعْطانا عِلمَ ما مَضى وعِلْمَ ما بَقيَ؛ وَجَعَلَ أفْئدَةً مِنَ النّاسً تَهْوِي إلَيْنا)) . وهنا يهيئ الإمام (عليه السلام) الأذهان إلى عظم منزلة أهل البيت (عليهم السلام)، ورفعة مكانتهم عند الله تعالى، فهم المختصُّون بكرامة الله تعالى، والموعودون بالشفاعة، وعندهم علم ما مضى وما يكون، وفوق ذلك رزقهم الله تعالى حبَّ النَّاس لهم وانشغال قلوب محبِّيهم بهم، وهذا الأمر يكشف عن قدسيَّة المتحدِّث فيمنح خطابه بعدًا قدسيًّا، وسلطة خطابيَّة بما يملك من منزلةٍ عند الله تعالى كشفها في أوَّل حديثه، وهذا بطبيعته يهيّئ الأذهان لاستقبال الخطاب بتلقٍ عالٍ .
2. انتقال الإمام مباشرة بعد مقدِّمته السابقة إلى الدعاء بالمغفرة لإخوانه ولزوَّار قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بقوله: ((اغْفِرْ لي ولإخْواني وَزُوَّارِ قَبر أبي الحسين، الَّذين أنْفَقُوا أمْوالَهُمْ وَأشخَصُوا أبْدانَهم رَغْبَةً في بِرِّنا، وَرَجاءً لِما عِنْدَكَ في صِلَتِنا، وسُروراً أَدْخَلُوهُ عَلى نَبِيِّكَ، وَإجابَةً مِنهُمْ لأمْرِنا، وَغَيظاً أدْخَلُوهُ عَلى عَدُوِّنا، أرادُوا بذلِكَ رِضاكَ)) . من جملة ما نفهمه من هذا النَّص أنَّ الإمام (عليه السلام) أفرد زوَّار قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بالدُّعاء، ثمَّ أكمل الدُّعاء لهم خاصَّة لم يشرك معهم غيرهم إلَّا في أوَّل الدُّعاء (اغْفِرْ لي ولإخْواني)، وهذا إن دلَّ فإنَّما يدلُّ على عظم المنزلة لهذه الفئة من النَّاس، ثمَّ إنَّه قال (أبي الحسين) ولم يقل جدِّي، وذلك من أجل بيان شدَّة التلاحم واتِّساق المشروع ووحدة الهدف بينه وبين الحسين (عليه السلام)، حتَّى وإن اختلف الزمان وتنوَّعت الأدوات، وكذلك ليبيِّن بأنَّه ابن لمشروع الحسين ووارث له بالمباشر بلا واسطة، وأنَّه الأحق في اتمام هذا المشروع والدعوة إليه . ثمَّ ينتقل في إشارةٍ مهمَّة للغاية، وهي بيان أهداف زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد أبان عنها بقوله: (رَغْبَةً في بِرِّنا، وَرَجاءً لِما عِنْدَكَ في صِلَتِنا، وسُروراً أَدْخَلُوهُ عَلى نَبِيِّكَ، وَإجابَةً مِنهُمْ لأمْرِنا، وَغَيظاً أدْخَلُوهُ عَلى عَدُوِّنا، أرادُوا بذلِكَ رِضاكَ) . فالزائر للحسين (عليه السَّلام) يجب أن يكون في نصب عينيه بأنَّه في زيارة الحسين (عليه السلام) يرغب في برِّ أهل البيت (عليهم السلام)، ويرجو ما عند الله تعالى من الخير المنبثق نتيجة الصِّلة لأهل البيت (عليهم السلام)، وأن يكون بفعله راغبًا بإدخال السرور إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنَّه في زيارته يوطِّن نفسه في تلبية أمر أهل البيت (عليهم السلام)، وأن يكون واعيًا بأنَّ زيارة الحسين (عليه السلام) تشكِّل غيظًا لأعدائهم، ولذلك عليه أن يعمل بإشعال ذلك الغيض بالمداومة على زيارة الحسين (عليه السلام) وانتهاج نهجه واتبنِّي مضامين ثورته في الحياة، ثمَّ على الزائر أن يؤطِّر كلَّ تلك الأهداف بنيَّةٍ عامَّة، وهي إرادة رضا الله تعالى . ومن هنا فإنَّنا نوصي الزائر الكريم أن يجعل هذه الأهداف حاضرة أثناء توجُّهه للزيارة، وأن يعمل على إشاعتها، وأن تتمحور نيَّته في الزيارة حولها من دون أن تكون معها ضميمة دنيويَّة مهما كانت .
3. ينظر الإمام الصادق إلى عصرنا الحالي فيقول: (اللّهُمَّ إنَّ أعْداءَنا عابُوا عَلَيهم بخُروجهم، فَلم يَنْهِهم ذلِكَ عَنِ الشُّخوصِ إلينا خِلافاً مِنْهم عَلى مَنْ خالَفَنا) . وفي هذا القول يظهر جليًّا وصف الإمام (عليه السلام) لحالنا في الوقت الحاضر؛ إذ جنَّد أعداء الحسين (عليه السلام) إمكانياتهم وفضائيَّاتهم في النيل من زوَّار قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وعيب الزيارة بشتَّى وسائل الخداع والمكر والكذب والافتراء بعيدًا عن الروح العلميَّة والنقد البنَّاء؛ ولكن كما قال الصادق (عليه السلام) لم ينتهِ الزَّوار عن الزِّيارة؛ بل زاد ذلك في الشُّخوص لأهل البيت (عليهم السلام) تيمنًّا بهم ومخالفةً لأعدائهم، وهذه الفقرة من الدُّعاء تُثبت ما صدَّر الإمام (عليه السلام) كلامه من القول: (وأعْطانا عِلمَ ما مَضى وعِلْمَ ما بَقيَ) . ووصفه اليوم لحالة عيب الزيارة ووصفها بأشنع الأوصاف من العلم بما بقي .
4. يؤكِّد الإمام الصادق (عليه السلام) في دعائه على بعض الأمور التي تُعدُّ من أفعال الزِّيارة ومكملاتها، وذلك بقوله: ((فارْحَم تِلْكَ الْوُجُوهَ الَّتي غَيْرتها الشَّمْسُ، وَارْحَم تِلكَ الخدُودَ الَّتي تَتَقَلّبُ علىُ حُفْرَةِ أبي عَبدِاللهِ الحسينِ (عليه السّلام)، وَارْحَم تِلكَ الأعْيُنَ الَّتي جَرَتْ دُمُوعُها رَحمةً لَنا، وارْحَم تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتي جَزَعَتْ واحْتَرقَتْ لَنا، وارْحَم تِلكَ الصَّرْخَةً الَّتي كانَتْ لَنا)) . فالزائر لقبر الإمام الحسين (عليه السلام) وخصوصًا المسافات البعيدة، وأخصُّ من ذلك من يختار سبيل السير على الأقدام فإنَّه سيتعرَّض إلى الجهد والتعب، وستغيِّر الشمس وجهه، وهنا الإمام (عليه السلام) يدعو لهذه الفئة من الزوَّار بأن يرحم الله تعالى هذه الوجوه، ثمَّ ينبِّهنا الإمام إلى الأفعال التي يجب أن تكون حاضرة في الزيارة، وهي: تقليب الخدود على قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، والبكاء حسرة على ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من مصائب، والجزع واحتراق القلب حزنًا عليهم، والصرخات المدوَّية لنصرة أهل البيت ومنهجهم . وهذه الأمور تجدها حاضرةً عند الزوَّار على سبيل الفطرة، فالجميع يبكي ويصرخ ويجزع ويتألَّم حزنًا على ما جرى على أهل بيت العترة الطاهرة، وكأنَّ الله تعالى أودع في قلوب محبِّيهم كيفيَّة التعامل في زيارتهم.
جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن يكون مشمولًا بدعاء الصادق (عليه السلام) .
الهوامش:
([1]) الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي (ت: 314 هـ): 5/81 .
([2]) مثير الأحزان، ابن نما الحلي (ت: 645 هـ): 31 – 32 .
([3]) شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي (ت: 363 هـ): 3/150 .
([4]) لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين (ت: 1371 هـ): 30 .
([5])الفتوح: 5/14 .
([6]) شجرة طوبى، الشيخ محمد مهدي الحائري (ت: 1369 هـ): 2/338 .
([7])كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه (ت: 367 هـ): 228 – 229 .