بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي
الحمد لله الذي (لا يشغله شأن، ولا يُغيّره زمانٌ، ولا يحويه مكان، ولا يصفه لسانٌ، ولا يَعزبُ عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سواف الريح في الهواء)[1].
وأتم صلواته وأزكى سلامه على عبده ورسوله (المجتبى من خلائقه، والمعتام[2] لشرع حقائقه، والمختص بعقائل كرامته، والمصطفى لمكارم رسالته)[3] وعلى آله أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
اهتم المعنيون بصلاح الإنسان والمجتمع سواء كانوا أصحاب رسالات إلهية أو رؤى حكميّة أو آراء ونظريات فلسفية في خلق الوعي الفردي والجمعي وتماثلاته الواقعية أو اللاواقعية.
فمن البيان الأول لدلالة مفردة (الوعي) وأثرها الإصلاحي ووسيلة اكتسابه، أي الإصلاح في قوله تعالى: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾[4]، واختصاصها بالإمام علي عليه اسلام تصريحاً نبوياً وان كره المبغضون إلى دلالة المفردة في القواميس اللغوية والبلاغية، فيقال:
اوعيت الحديث اعيه وعياً، فأنا واع، إذا حفظته وفهمته وفلان أوعى من فلان: أي أحفظ وأفهم)[5].
ومنه الحديث الشريف، عنه (صلى الله عليه وآله): «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وبلغها فربَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه...»[6].
ومن هذا المعنى اللغوي والبيان النبوي إلى بيان الفلاسفة للوعي وتمثلاته ومفهومه ووسائل خلقه في الإنسان كانت رؤاهم متعددة فمن (رينيه ديكارت (1596 – 1650) مروراً بـ(ايمانويل كانت 1724 – 1804م) و(كارل ماركس 1818 – 1883م) و(نيتشه 1844 – 1900م) و(فرويد 1856 – 1939م) وانتهاءاً بـ(جان بول سارتر 1905 – 1980م) تباينت النظريات وتعددت المفاهيم في خلق الوعي لدى الإنسان إلا أن الملاحظ في أقوال الفلاسفة حول مفهوم الوعي أنهم يدورون حول أمرين أساسيين وهما (الذات) و (التفكير) ومن ثم لا يمكن أن يتحقق الوعي عند الإنسان بدون التفكير والمعرفة ولكنهم لم يحددوا طريق المعرفة هل هو فطري أم اكتسابي؟ ووسيلته التفكير.
من هنا: اختلفوا في حدود الوعي ونوعيته فقالوا في حدود الوعي:
1- قال (ماركس)[7] في حدود الوعي ودرجاته والذي يرى إن (الوعي هو ذلك البناء الفوقي الذي تتجلى فيه جميع الأنشطة الانسانية، ويرى انه لا نستطيع اطلاقًا ان نتمثل الوعي في معزل عن الأوضاع الاجتماعية وبالتالي علاقات الإنتاج.
فالناس يدخلون في علاقات إنتاج معينة خارجة عن إرادتهم، تولد عندهم درجات متنوعة من الوعي.
ومن هذا المنطلق يقول ماركس: (ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وانما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).
إلا أن ماركس لا يعتبر الوعي انعكاسًا سلبيًا للواقع لأنه يؤمن بوجود علاقة جدلية فيما بينهما، فالوعي يمكنه أن يؤثر في الواقع؛ فإما ان يساهم في تغيير الواقع (الوعي الصحيح) وإما أن يساهم في تكريسه (الوعي الزائف).
2- أما (نتشيه)[8] فيرى أنَّ بالإمكان أن يعيش الإنسان حياته في استقلال عن الوعي تمامًا؛ لما كانت الحياة البشرية معرَّضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل البقاء، اضطر الإنسان أن يعبر عن نفسه في كلمات؛ ومن ثم يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين.
هكذا اختلق الإنسان لنفسه أوهامًا اصبحت تؤطر حياته، وأضفى عليها صبغة حقائق تقنن واقعه (كالواجب، والمسؤولية، والحرية...)، فالحقائق في العمق ليست إلا أوهامًا منسية.
3- أما (فرويد)[9] فينظر إلى حياتنا نظرة مخالفة تمامًا؛ فالحياة الإنسانية عنده أشبه بجبل الجليد (ما يظهر منه أقل بكثير مما هو خفي)؛ ومن ثمة نكون مخطئين جدًا إذا نسبنا كل سلوكياتنا إلى الوعي؛ لأن كل هذه الأفعال الواعية سوف تبقى غير متماسكة وغير قابلة للفهم إذا اضطررنا إلى الزعم بأنه لابد أن ندرك بواسطة الوعي كل ما يجري فينا؛ فكثير من السلوكيات لا تفهم إلا إذا أرجعناها إلى الجانب الأساسي من حياتنا النفسية وهو اللّاشعور.
وكتماثل توفيقي نستطيع القول بأن الحياة الإنسانية حياة مركبة؛ حيث يلعب فيها كل من الوعي واللّاشعور دورًا مركزيًا، فإذا كان اللّاشعور ضروريًا لتفسير كثير من السلوكيات خصوصًا منها المنحرفة والمرضية والشاذة، فإنه لا يجب أن ننسى بأن الحياة الإنسانية حرية وإرادة ومسؤولية، حيث يختار الإنسان كثيرًا من سلوكياته بكامل الوعي) [10].
إن هذا التباين في فهم (الوعي) من جهة وآثاره في الفرد والمجتمع من جهة ثانية وتداخله مع الشعور أو كما عبّر عنه (فرويد) باللّاشعور كما في الأفعال الشاذة التي تصدر عن الإنسان، أو تكريسها في المجتمع كما عند (ماركس) تبقى حلقة الاحتياج إلى التفكير هي الأساس في التغيير ونقل الإنسان من مستوى إلى مستوى آخر، حتى تلك التي أطلق عليها الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع باللّاوعي أو اللّاشعور كقيام الأُم بالدفاع عن ابنها الصغير وإن كلفها ذلك كثيرًا من الخسائر، وذلك لتصرفها بدون شعور أو اللّاوعي، ومن ثم دخول (الوعي) في دائرة جديدة خارجة عن نطاق التفكير بالأضرار التي ستصيب الأُم وهنا تدخل عملية الفطرة التي غابت عن الفلاسفة وعلماء النفس وأثرها في تحديد الأُسس التي يستقيم بها النظام الحياتي الذي سنّه الله تعالى في خلقه.
ولذلك:
يقودنا الحدث أي رؤية الناس في المدن الإسلامية رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يقرأ القرآن ويكلم الناس مع ما رافق ذلك من رأيتهم بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبايا إلى خلق حالة الوعي الفردي والضمير الجمعي في الأمة، لا سيما وأن بعضهم تصرف مع الحدث باللاشعور أو باللاوعي كما أطلق عليه علماء النفس والاجتماع في الانتفاضة السريعة بوجه الحكام سواء في الكوفة أو الشام.
أو تصرف بعض الناس في الكوفة بالبكاء والعويل عند سماعهم لخطبة ابنة أمير المؤمنين فخر المخدرات وبنات الرسالة العقيلة زينب (عليها السلام)، فسكنت الأجراس التي في أعناق الخيل وهدئت أنفاس الناس بعد أن هاجت بهم العواطف والشعور بالندم في التقصير عن نصر آل نبيهم (صلى الله عليه وآله) أو هو تعبير عن اللاشعور لما يعانيه الناس من الكبت والظلم وتغيير المفاهيم وحرفها عبر الانساق الثقافية والعقدية التي اتخذتها الخلافة (الراشدة)[11]!!.
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 178 بتحقيق الشيخ قيس العطار، ط العتبة العلوية.
[2] اعتام فلان الشيء: اختاره.
[3] نهج البلاغة، الخطبة: 178 بتحقيق الشيخ قيس العطار، ط العتبة العلوية.
[4] سورة الحاقة: الآية 12.
[5] النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج5، ص207.
[6] مسند الحميدي: ص47، ط دار الكتب العلمية بيروت.
[7] كارل هانريك ماركس: فيلسوف ألماني، واقتصادي، وعالم اجتماعي، ومؤرخ، وصحفي واشتراكي ثوري (1818م - 1883م). لعبت أفكاره دورًا هامًا في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير الحركات الاشتراكية. واعتبر ماركس أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ. نشر العديد من الكتب خلال حياته، أهمُها بيان الحزب الشيوعي (1848)، ورأس المال (1867-1894). ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
[8] فريدريش فيلهيلم نيتشه (1844 - 1900): فيلسوف ألماني، ناقد ثقافي، شاعر وملحن ولغوي وباحث في اللاتينية واليونانية. كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث.
بدأ حياته المهنية في دراسة فقه اللغة الكلاسيكي، قبل أن يتحول إلى الفلسفة. بعمر الرابعة والعشرين أصبح أستاذ كرسي اللغة في جامعة بازل في 1869، حتى استقال في عام 1879 بسبب المشاكل الصحية التي ابتلي بها معظم حياته، وأكمل العقد التالي من عمره في تأليف أهم كتبه.
في عام 1889، وفي سن الرابعة والأربعين، عانى من انهيار وفقدان لكامل قواه العقلية. عاش سنواته الأخيرة في رعاية والدته وشقيقته، حتى توفي عام 1900. ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
[9] سيغيسموند شلومو فرويد (1856- 1939م): طبيب نمساوي من أصل يهودي، اختص بدراسة الطب العصبي ومفكر حر يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي. وهو طبيب الأعصاب النمساوي الذي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث.
اشتهر فرويد بنظريات العقل واللاواعي، وآلية الدفاع عن القمع وخلق الممارسة السريرية في التحليل النفسي لعلاج الأمراض النفسية عن طريق الحوار بين المريض والمحلل النفسي، وغيرها الكثير من الأعمال الطبية.
في نهاية القرن العشرين ومع التقدم في مجال علم النفس بدأت تظهر العديد من العيوب في كثير من نظرياته، ومع هذا تبقى أساليبه وأفكاره مهمة في تاريخ الطرق السريرية وديناميكية النفس وفي الأوساط الأكاديمية، وأفكاره لا تزال تؤثر في بعض العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ينظر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
[10] ويكيبيديا - الموسوعة الحرة - (وعي).
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر رأس الإمام الحسين عليه السلام في إحياء فكر التوحيد وتوحيد الفكر في ضوء النظرية الوظيفية والضمير الجمعي دراسة بينية، السيد نبيل الحسني الكربلائي، ص153-156.