خُطَى الخُزَاعي
بحمى من ظلال وارفة لشجرة لم تزل تؤتي الأُكُل في كل حين، ترعرعت غرسة من طيب البذار، لتبسق قامة علوية منبئة عن طرح زاكٍ في الأُكل المبارك، حُفَّت بالعصمة عناية أب ورعاية أخ، تهيأت لها صنوف من عطاء، فأعدت لها خير وعاء، إذ عبَّأت قابليتها من تلك الأُعطيات مستوىً أشاد به المعصوم وأطراه.
أطلَّت السيدة المعصومة (سلام الله عليها) على عالم الدنيا غرة ذي القعدة من سنة (173)([1])، ونشأت مميزة في ولد الإمام موسى بن جعفر (صلوات الله عليه) منزلة وشأنًا؛ لِما حازته من الملكات المتنوعة والاستعدادات في التلقي والعمل، ومن الروايات التي حكتها قيمة علمية فذة ما نُقِل من: ((أنَّ جمعًا من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) للتشرف بلقائه والسلام عليه، فأُخبِروا أنَّ الإمام (عليه السلام) خرج في سفر وكانت لديهم عدة مسائل فكتبوها، وأعطوها للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ثم انصرفوا، وفي اليوم التالي - وكانوا قد عزموا على الرحيل إلى وطنهم – مروا ببيت الإمام (عليه السلام)، ورأوا أنَّ الإمام (عليه السلام) لم يعد من سفره بعد، ونظرًا إلى أنَّه لا بُدَّ لهم أن يسافروا طلبوا مسائلهم على أن يقدموها للإمام (عليه السلام) في سفر آخر لهم للمدينة، فسلمت السيدة فاطمة (عليها السلام) المسائل إليهم بعد أن كتبت أجوبتها، ولمَّا رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم، وفي أثناء الطريق التقوا بالإمام الكاظم (عليه السلام) وهو في طريقه إلى المدينة، فحكوا له ما جرى لهم فطلب إليهم أن يُروه تلك المسائل، فلمَّا نظر في المسائل وأجوبتها، قال ثلاثًا: فداها أبوها)) ([2])، ويُفاد من هذا أنَّها ما كانت (سلام الله عليها) لتقدم على مثل هكذا فعل لولا أنَّها كانت واثقة من علميتها، متيقنة من صحة أجوبتها التي استقتها من نمير العلم الصافي، إضافة إلى ذلك أنَّ مبادرتها تلك قد جلَّت عن وعي عالٍ وشعور بالمسؤولية راقٍ تجاه خدمة الدين وقضاء حاجة المؤمنين في إطار الحيز المعين.
لقبت (سلام الله عليها) بألقاب عدة وأشهر ألقابها المعصومة، وقد ورد هذا اللقب على لسان الإمام الرضا (صلوات الله عليه) حين قال: ((من زار المعصومة في قم كمن زارني)) ([3])، ومن ألقابها أيضًا التي تناسبت وشؤونها: الطاهرة، الحميدة، البرة، الرشيدة، التقية، النقية، أخت الرضا([4]).
أمَّا وفاتها (سلام الله عليها) كانت بعد ترحيل شقيقها الإمام الرضا (صلوات الله عليه) من المدينة إلى مرو بأمر من الطاغية المأمون في سنة مائتين، لتخرج السيدة المعصومة في سنة إحدى ومائتين في طلبه برحلة حُفَّت بالرعب والمشقة، وعند وصولها إلى ساوة مرضت وحوَّلت وجهتها إلى قم، أو أنَّ أهل قم لمَّا سمعوا بمقدمها خرجوا إليها وطلبوا منها النزول في بلدتهم، فبقيت هناك ستة عشر يومًا وتوفيت (سلام الله عليها) وكان ذلك في الثاني عشر من شهر ربيع الثاني من سنة إحدى ومائتين([5]).
حظيت السيدة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها) بقدر ملحوظ في النقل الشريف عنهم (صلوات الله عليهم)؛ في الترغيب بزيارتها، واعدين زائرها بالجنة أجرًا، ومن ذلك النقل إضافة إلى الحديث المتقدم عن الإمام الرضا (صلوات الله عليه)، ما ورد عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) إذ قال: ((إنَّ لله حرمًا وهو مكة، ألا إنَّ لرسول الله حرمًا وهو المدينة، ألا وإنَّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرمًا وهو الكوفة، ألا وإنَّ قم الكوفة الصغيرة، ألا إنَّ للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى (عليه السلام)، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم)) ([6])، وعن سعد عن الإمام علي الرضا (صلوات الله عليه) قال: ((يا سعد عندكم لنا قبر، قلت: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليه السلام)؟ قال: نعم. من زارها عارفًا بحقها فله الجنة)) ([7])
فسلام عليها من سيدة فدَّاها بنفسه معصوم، وجعل آخر زيارتها كزيارته، ونصَّ آخر على أنَّ زيارتها تعدل الجنة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1])) مستدركات علم الرجال، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت: 1405): 8/ 594.
[2])) الفاطمة المعصومة (س)، محمد علي المعلم: 77، نقلًا عن المرحوم السيد أحمد المستنبط عن كتاب كشف اللئالي لابن العرندس الحلي.
[3])) المصدر نفسه: 64، نقلًا عن رياحين الشريعة: 5/35.
[4])) المصدر نفسه: 72.
[5])) ينظر: مستدركات سفينة البحار: 261.
[6])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت:1111): 57/228، ح59.
[7])) المصدر نفسه: 48/316-317.