بقلم: م. م. وئام علي القره غولي
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على المحمود الصادق الأمين المنتجب المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهداة المهديين.
وبعد:
إنّ مِن أهم الأهداف التي تُنشدها الدّولة الإسلامية في سياستِها الداخلية بسط الأمن العام وحفظ أرواح النّاس وأعراضهم وأموالهم مِن الباغين والمعتدين[1]، وقَد أنزلت الشّريعة عقوبات رادعة لهؤلاء المُعتدين، وسعى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) إلى تطبيقها في قضائه، مما جعلَ لها أثرا في تحقيقِ الاستقرار والأمن العام في المُجتمع، لذا سنتناولُ في هذا المَطلب أثر تطبيق حد الحرابة، وأثر تطبيق حد الرّدة، ومِن ثمّ أثر تطبيق حد البغي.
الفرع الثاني: أثر تطبيق حد الردّة
تُعدُّ جريمة الردة في الشّريعةِ الإسلامية من أخطرِ الجّرائم التي تواجهها الدولة، وذلك لما فيها من العدوانِ على المُجتمعِ الإسلامي[2]، وتَتحقق الرّدة بالرجوعِ عَن الإسلام سَواء كانَ فِعلا أو نطقا، وقد عَاقبت الشّريعة الإسلامية على هذهِ الجّريمة بعقوبةِ القتل[3]، حيث يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): ((مَن بدّل دينه فاقتلوه))[4].
وسبب التشديد في هذهِ العقوبة يرجعُ إلى الخَطر الجّسيم الذي تحدثه هذه الجّريمة، فضررها لا يقتصر على الفردِ نفسه بل يعودُ على كيانِ المُجتمع الإسلامي برمتهِ، لكون نظام الحُكم القائم في الدولةِ هو النّظام الإسلامي، والإسلام لا يفصل بينَ الدّين والدّولة، ومَسألة الإيمان بالدّين ليست مَسألة فردية وحسب وإنّما هي مَسالة فردية واجتماعية في آن واحد[5]، وجاءَ تأكيد الإمام علي (عليه السلام) على ضرورةِ حفظ الدّين وصيانته في كثيرٍ من المَواضِع منها ما وردَ عَن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ((كانَ أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا في خطبتهِ يقول: يا أيّها النّاس دينكم، فإنّ السيئة فيه خير مِن الحسنة في غيرهِ، والسيئة فيه تغفرُ، والحَسنة في غيرهِ لا تقبل))[6].
فقد عدّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الدّين من الأولويات في حياةِ الفَرد، فهو العُنصر الأساس في تحقيقِ الأمن له ولمن حوله، وأشار(عليه السلام) إلى ذلك بقوله: ((مَن استحكمت لي فيهِ خصلة مِن خِصال الخير احتملته عليها واغتفرت فَقد ما سواها، ولا اغتفر فقد عقل ولا دين، لان مُفارقة الدين، مُفارقة الآمن، فلا يتهنأ بحياة مع مخافة..))[7]، وقال (عليه السلام) في حديث آخر: ((لا حياةَ إلا بالدّين))[8].
ومِن هذا المُنطلق التزمَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) مَبدأ الشّدة في تنفيذِ الحدّ على من ارتدّ عن دينِ الإسلام، فقد روي عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قالَ: أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجلٍ مِن بني ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه، فشهدوا عليه، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ما يقولُ هؤلاء الشهود؟ قال: صدقوا وأنا أرجع إلى الإسلام، فقال: أمّا إنّك لو كذبت الشّهود لضربت عنقك، وقد قبلت مِنك ولا تعد فإنّك إنْ رجعت لم أقبل مِنك رجوعًا بعده))[9]، فالإمام علي (عليه السلام) كانَ صارما مع المُرتد، وحذره مِن العودة إلى جريمتهِ، فإن عادَ قتله، فالتّساهل في هذهِ الجّريمة يُؤدي إلى زعزعةِ هذا النّظام، ومن ثمّ عوقب عليها بأشدّ العُقوبات استئصالا للمُجرم من المُجتمع، وحماية للنّظام الاجتماعي مِن ناحية، ومنعا للجّريمة وزجرا عنها من ناحية أخرى، ولا شكّ أن عُقوبة القتل أقدر العُقوبات على صرفِ النّاس عن الجريمة، ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمةِ، فإنّ عقوبة القتل تولد غالبا في نفسِ الإنسان مِن العواملِ الصارفة عن الجريمة[10].
وقد يَرد على هذهِ المَسألة إشكالان لابدّ مِن توضيحهما: أولهما يدورُ حول الهَدف مِن قتلِ المُرتد فلا شكّ أنّه إذا قتلَ وهو كافر فمصيره النّار، بينما إذا لم يقتل فيحتمل أنّه قد يتوبُ، فتكون له آخرة صالحة، ففي قتله ضرر، وان في بقاءِ احتماله الخير، والعَقل يلزم بتقديمِ احتمال الخير على الضررِ المَقطوع به[11].
وأمّا الإشكال الآخر هو كيف يقتل المُرتد على الدين وقد جاء في قوله تعالى:)لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ([12]، والرّد على الإشكال الأول يكمنُ بأنّه في قتلِ المرتد عن دينِ الإسلام ردع وزجر لأفراد المُجتمع لئلا يرتكبوا مثل هذهِ الجّريمة، والردع المَقطوع به أولى بنظر العَقل و العُقلاء من الخيرِ المُحتمل الذي يكون في بقاءِ المُجرم، هذا بالنّسبة إلى الدّنيا، أما بالنّسبة إلى الآخرةِ فالله تعالى أعلم بِما في القِلوب، ويعاملُ الكُل بالآخرةِ على حسبِ ما في قلبه، وأمّا الإشكال الثاني بأنّه لا إكراه بالدّين، فالمَقصود منه أنّه لا إكراه في الدخولِ في الإسلام، أمّا إذا أسلم فلا بدّ أن يلتزم بـأحكامهِ، فيكون الإنسان الذي يسلمُ باختيارهِ قبل هذا الحكم، أي إنه إذا كفر يقتل، والفرق بين المُرتد والكافر يكمنُ في أنَّ الثّاني لم يخرج حتى يكون خرقا للقانونِ وتجريئا للآخرين في الخرق، بينما المُرتد خرق القانون وجرأ الآخرين[13].
وإضافة إلى ما يحققه هذا الحدّ وصرامته من ردعِ وزجر للأفراد، إلا أن الرّادع الأكبر في المَنع مِن الاقتراب مِن هذهِ الرّذيلة، يكمنُ في قوةِ الإيمان التي يَحملها المُسلمين، فقد كانَ لتمسكهم بالدّين الإسلامي وتعاليمه أثر كبير في منعهِم مِن ارتكابِ هذهِ الجّريمة، والدليل على ذلك هو ما نقلته لنا الشّواهد التاريخية إذ دلّت على انخفاضِ مستوى هذه الجريمة بين المُسلمين وإن أغلب الذينَ ارتدوا كانوا يدينونَ بغيرِ دين الإسلام ثم رجعوا إلى ما كانوا عليه[14]، فأولئك الذينَ يرتدونَ عن شكّ في العَقيدة لوجود خللٍ في التّفكير فهم قليلون، إلا أنّهم يشكلونَ خطرا على الدولةِ، فالمُرتد الذي يُعلن ارتداده، ويجهر به إنّما يُعلن بهذا الارتداد حربا على الإسلام ويرفعُ راية الضلالة ويدعو إليها غيره مِن أهلِ الإسلام، ولا يقتصرُ خطر المُرتد على ذلك، بل لابدّ له مَن أن يرتكب شيئا من الجرائم الماسة بأمنِ الدولة واستقرارها[15].
وبذلك يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) بتطبيقهِ حدّ الرّدة على المُرتدين قد حافظَ على العقيدةِ الإسلامية من أن تزلزلِها شبهات ضعفاء الإيمان الذين يحاولونَ تدمير المُجتمع بنشرِ عقائدِهم الفاسدة التي تحاولُ التشكيك في العقيدةِ الإسلامية ونشرِ الضّلال والانحراف في الدولة([16]).
الهوامش:
[1] ينظر: النظام السياسي في الإسلام: القرشي، ص 270.
[2] ينظر: الوجيز في الفقه الجنائي: محمد نعيم ياسين، دار الفرقان، عمان، ط1، 1404هـ، ص 124.
[3] ينظر: المهذب: ابن البراج، 2/161.
[4] مستدرك الوسائل: الميرزا النوري، 18/164.
[5] ينظر: أثر إقامة الحدود في استقرار المجتمع: محمد حسين الذهبي، ط2، 1407هـ، ص 56.
[6] معاني الأخبار: أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي(الصدوق)، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم د ط، د ت، ص 185.
[7] الكافي: الكليني،1/27.
[8] الإرشاد: المفيد، 1/296- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، تحقيق حسن الدركاهي، طهران، ط1، 1411هـ، ص 180.
[9] الكافي: الكليني، 7/257- بحار الأنوار: المجلسي، 40/101.
[10] ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي: عبد القادر عودة، 1/ 662.
[11] ينظر: الفقه: الشيرازي
[12] سورة البقرة: الآية 256.
[13] ينظر: الفقه: الشيرازي، 88/275.
[14] تعرضنا لذكر النماذج التطبيقية في الفصل الثاني المبحث الأول، ص 123.
[15] ينظر: الإنسان بين المادية والإسلام: محمد قطب، دار الشروق، بيروت، ط8، 1403هـ، ص 137 ومابعدها.
([16]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفقه الجنائي في قضاء الإمام علي عليه السلام وأثره في بناء الدولة الإسلامية، الدكتورة ناهدة الغالبي، الباحثة وئام القره غولي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 223-227.