بقلم السيد: نبيل الحسني الكربلائي
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نِعَمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على حبيبه المنتجب ورسوله المصطفى أبي القاسم محمد وعلى آله أساس الدين وعماد اليقين.
وبعد:
اشتمل النص الشريف على مجموعة من الافعال المباشرة والمكتنزة للقوة الانجازية الدافعة الى الامتثال التام وتحقق المقبولية بدرجات عالية وذلك أن منتج النص (عليه السلام) وبفعل حكمته العالية قد أولج في النص جملة من الافعال المباشرة المحركة للنفوس والقلوب في تحقيق مبتغاه من الوصية.
فنلاحظ هنا:
أولاً: صيغة الإيقاع، وهي من (التصريحيات - DECLARATIONS) .
ابتدأ منتج النص(عليه السلام) خطابه بصيغة الايقاع التي جاءت في بعض الأفعال المباشرة، وهي:
1- أوصى. 2- قضى.
فقد حققت هذه الأفعال بقوتها الانجازية قصدية منتج النص (عليه السلام) عند المتلقي الاول، وهم أولاده تمام المقبولية في العمل بهذه الأموال والمتولي عليها، وما أوقعه منتج النص(عليهالسلام) من مصاريف وإنفاق لإبني فاطمة (عليهم السلام) من هذه الأموال والإيرادات.
ثانياً: صيغة الطلب، وهي من (التوجيهيات - DIRECTIVES).
إستهل منتج النص (عليه السلام) خطابه ببعض الأفعال المباشرة الدالة على معنى الطلب والدعاء الى الله تعالى مما يخلق شعوراً إيمانياً ووجدانياً لدى المتلقي سواء كان المتلقي الأول أو الثاني أو غيرهما.
وذلك أن منتج النص(عليه السلام) له من المقاصدية ما تجعله يبث روح الإيمان والتربية الروحية والمودة في نفوس المتلقيين في أمرٍ لابد لكل مسلم أن ينجزه ويوقعه ألا وهو أمر الوصية ودوافعها النفسية والأسرية والايمانية والاجتماعية؛ وذلك أن منتج النص رتب أمر أمواله وموقوفاته وصدقاته وفق عناوين شرعية وشخصية عديدة ابتداءً من النية وانتهاءً بأثار هذه الوصية التي سيجنيها في الدنيا والآخرة.
ولذا:
استهل الخطاب، أي الوصية بصيغ الطلب والدعاء في جملة مع الأفعال المباشرة، وهي:
1- «ابتغاء وجه الله تعالى».
2- «ليولجني به الجنة».
3- «ويصرفني به عن النار».
4- «ويصرف النار عني».
فهذه الافعال الطلبية الأربعة جاءت لترسم للمتلقين منهجاً تربوياً وتقوائياً للنفس والابناء والمجتمع وشدهم بمرجعهم الأول والآخر وهو الله تعالى ورسوله الاكرم (صلى الله عليه وآله)؛ وأن حقيقة هذه الأموال ووجه الانتفاع الحقيقي منها بعد الموت وهو رضا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وجعلها الوسيلة للدخول الى الجنة والنجاة من النار فهما الحياة الحقيقية والابدية التي سيؤول أمر الانسان إليهما.
ولذلك أردف هذه الأفعال الأربعة بقصد المطلوبية الى قصدية اخرى تؤثر في نفوس المتلقين وهي صيغة الاخبار عن حال الانسان بعد الموت وعاقبته في الآخرة كما في ثالثاً.
ثالثاً: صيغة الإخبار .
تظهر صيغة الإخبار في الافعال الكلامية المباشرة في قول منتج النص (عليه السلام):
«يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه».
ففي هذا اليوم العصيب والرهيب الذي اخبر عنه منتج النص (عليه السلام) بأنه اليوم الذي تبيضُّ فيه وجوه الخلائق من الجن والإنس لحريٌّ بالإنسان أن يحرص جاهداً على العمل بما يمكنه لتجنب أسوداد الوجه وأن يعمل جاهداً على العمل بما يخلف عليه ببياض الوجه عند الفوز برضا الله تعالى ورضا رسوله (صلى الله عليه وآله) ورضا أبني فاطمة (عليهم السلام) والسبيل الى تحقق هذا الرضا عِبْرَ أمهما البضعة النبوية فاطمة(عليها السلام).
وذلك أن المال وحده لا يكفي للوصول الى هذه النتيجة ليَبْيضّ وجهه ويفوز بالرضا ودخول الجنة والنجاة من النار وإنما يحتاج كذلك الى العمل الجاد والحرص على احراز رضا فاطمة (عليها السلام) ورضا أبنيها الحسن والحسين (عليهما السلام).
من هنا:
نجد منتج النص (عليه السلام) يلازم بين هذه الافعال المباشرة في جعل التولية لأبني فاطمة(عليهم السلام) وذلك أن الوصول الى جوهر ايقاع الوصية وتحقق الطلب في هذه الافعال (ابتغاء، يولجني، يصرفني، يصرف عني) يكمن في رضا أبني فاطمة (عليهم السلام) ورضاها بهما، لتلازم حرمتهما بحرمة رسول الله وشرفهما بشرفه (صلى الله عليه وآله).
وعليه:
لن يصل الانسان بالإيقاعات في الوصية بالأموال أو غيرها مالم يقرن بذلك ابني فاطمة (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين).
ولذا:
نجد منتج النص يقدم افعالاً مباشرة اخرى حينما يورد ذكر العلة في جعل التولية لأبني فاطمة (عليهم السلام)، فيقول:
«وإن لأبنَي فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، وأني إنما جعلت الذي جعلت لأبنَي فاطمة ابتغاء وجه الله، وتكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتعظيمهما وتشريفهما ورضاهما».
فكانت صيغ الافعال المباشرة في التوكيد والاخبار والطلب الذي اتحد مع الطلب الاول الذي استهل به اصل ايقاع الوصية، وهو:
«ابتغاء وجه الله».
فكانت المقبولية لدى المتلقي الاول -وهم ابناءه- جلية في التفاعل والانسجام التام والعمل المنجز في الامتثال لما جاء في خطاب منتج النص (عليه السلام) وذلك بفعل صيغة التوكيد والاخبار من جهة وفي صيغة الطلب والدعاء من جهة ثانية مع وضوح اصل القصد في وقوع الوصية وتحقق نتائجها المرجوة في يوم القيامة، وهو كما يلي في رابعاً.
رابعاً: صيغة التوكيد والاخبار، وهي من (الاخباريات - ASSERTIVES) .
لقد لازم منتج النص (عليه السلام) بين التوكيد في قوله «وإني» والحصر في «إنّما» لإحراز أعلى درجات المقبولية لدى المتلقي الأول والثاني كما سيمر في المسألة القادمة.
فهذا التوكيد يظهر ما يلي:
1- إنّ ابني فاطمة (عليهم السلام) لا ينقصهما تعظيم أو تشريف فهما من الأصل لهما شرف عالٍ وحسب راقٍ ولكن جاءت صيغة التوكيد للإخبار عن أمر التولية جَعَلَ لهما شرفاً لهذه الشرفية بأمر التولية.
بمعنى: إنّ شرفهما يحجز اعتلاء بقية أولاد الامام علي (عليه السلام) لهذه التولية، فليس هناك من هو أشرف منهما أو أعظم حرمة منهما، ولذا جاء بأداة الحصر (إنّما).
2- التوكيد على أحراز رضاهما وذلك أن حصر رضا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) في الاعمال وقبولها وارتفاعها محصور برضا الله تعالى ورضا رسوله (صلى الله عليه وآله).
3- حصر النتيجة النهائية لأصل الفعل في إيقاع الوصية «وهي دخول الجنة والنجاة من النار في يوم القيامة الذي تبْيَضّ فيه الوجوه» بالمرتكزات الثلاثة وهي (وجه الله، وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورضا فاطمة (عليها السلام).
إنّ هذه النتيجة لتثير الوجدان والايمان وتدفع الى تصحيح التفكير وتقوّم الذهن من الإعوجاج في الاستدلال ببعض وجوه الخير حينما تكون الاعمال منفصلة عن هذه المرتكزات فإنها لن توصل صاحبها الى الجنة وتصرفه عن النار، وتصرف النار عنه وتُبيِض وجهه يوم القيامة، فلا تذهبنَّ بكم الظنون.
من هنا:
نجد التفاعل مع النص ومقبوليته عند المتلقين كان عالياً سواءً عند المتلقي الاول أو الثاني أو الثالث أو غيرهم على مرِّ الأزمنة؛ فقد أبدع منتج النص (عليه السلام) في أيقاظ ضمير الأمة وخلق حالة جديدة من الوعي الجماعي فيها وهو ما سنتناوله في المبحث القادم.[1].
الهوامش:
([1]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فاطمة في نهج البلاغة، للسيد نبيل الحسني: ط: العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة. ج5/ ص 93-98.