من آثار نهج البلاغة في المستوى الأخلاقي لدى المفسرين 2- أداء الأمانة

مقالات وبحوث

من آثار نهج البلاغة في المستوى الأخلاقي لدى المفسرين 2- أداء الأمانة

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 31-05-2023

بقلم: د. الشيخ محسن الخزاعي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.

أما بعد:
الأمانة صفة الأنبياء ودأبهم، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان عدد منهم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}([1])، وقد رشحت الأمانة نبي الله يوسف عليه السلام ليكون أميناً على خزائن الأموال في مصر، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}([2])، وكانت الأمانة باعثاً على اختيار شعيب لنبي الله موسى عليها السلام ليعمل لديه ويزوجه ابنته، قال الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ}([3])، ولقد كان خلق الأمانة بارزاً في شخص رسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وبعدها، فقد كان معروفاً بالصادق الأمين، وتجلى هذا يوم ارتضوا حكمه في وضع الحجر الأسود، فقد هتفوا لما رأوه وقالوا: "هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا"([4]).

 وكانت الأمانة من أهم الدوافع التي رَغبَتْ السيدة خديجة في الزواج
منه صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا تقتصر الأمانة على أداء الودائع لأصحابها، بل يدخل فيها كل ما ائتمن الله تعالى العبد عليه، ولعل من أصدق معانيها ولاية أهل البيت عليهم السلام، قال تعالى: {إِنّا عَرَضنَا الأمانة عَلى السماواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنهَا وَأَشفَقْنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الأنسنُ إِنّهُ كانَ ظلُوماً جَهُولاً}([5]).
فقد ورد في تفسير هذه الآية أنَّ المراد بالأمانة هي "الولاية الإلهية، وبعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها والمراد بحملها والإباء عنه وجود استعدادها وصلاحية التلبس بها وعدمه، وهذا المعنى هو القابل لأنْ ينطبق على الآية فالسماوات والأرض والجبال على ما فيها من العظمة والشدة والقوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها وهو المراد بإبائهن عن حملها وإشفاقهن منها"([6]).
لكنَّ الإنسان الظلوم الجهول لم يأبَ، ولم يشفق من ثقلها وعظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل وعظم الخطر فتعقب ذلك أنْ انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن، بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها إلا مؤمن مطيع، قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([7]).

وذهب السيد العلامة إلى أنَّ المقصود بالأمانة: ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فقد أستدل على ما ذهب إليه بجملة من الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، إذْ قال ما نصه:" ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيت عليهم السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام وولده، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة، والوصول إلى مقام العبودية، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله"([8]).
ومن ثم نقل السيد العلامة ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: قوله:" ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها إنَّها عرضت على السماوات المبنية والأرض المدحوة والجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لأمتنعن ولكن أشفقن من العقوبة، وَعَقِلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الإنسان إنَّه كان ظلوماً جهولا"([9]).
ويستشف من كلام الإمام عليه السلام أنَّ المقصود بالأمانة هي ولاية أهل البيت عليهم السلام بقوله " فقد خاب من ليس من أهلها" إذْ إنَّ ولايتهم هي الضمانة من الخيبة والخسران بدلالة حديث الثقلين.
وما يعضد هذا الرأي حديث الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: {إِنّا عَرَضنَا الأمانة عَلى السماواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنهَا وَأَشفَقْنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الأنسنُ إِنّهُ كانَ ظلُوماً جَهُولاً}([10])، قال: "هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام".([11])
وإذا تنزلنا وقلنا أنَّ المقصود بها ليست ولاية أهل البيت عليهم السلام، فالجواب: انَّه قد ثبت من خلال تفسير الآية محل البحث أنَّ الأمانة هي الولاية الإلهية والإمامة مصداق من مصاديق الأمانة، ولعلَّه أجلاها ؛ لأنّ الإمامة هي في طول ولاية الله سبحانه وتعالى، فمن أنكرها أنكر ولاية الله عزّ وجلّ، وإلا فانّ كل ما هو خير وصالح في سبيل الله سبحانه وتعالى فهو في خط ولاية الله تعالى)[12].

الهوامش:
([1]) الشعراء، 107.
([2]) يوسف، 54ـ 55.
([3]) القصص، 26.
([4]) سيرة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار، (ت 151هـ)، تحقيق : محمد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريف (د. ت)، 2/ 87، ظ : الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، (ت 230هـ)، دار صادر ـ بيروت، (د. ت)، 1/ 146.
([5]) الأحزاب، 72.
([6]) الميزان، 16/ 282.
([7]) فصلت، 11.
([8]) الميزان، 16/ 286.
([9]) الميزان، 16/ 286، ونهج البلاغ، 2/180.
[10])) الأحزاب، 72.
[11])) الكافي، 1/ 413، باب : فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية.
([12] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص  197-200.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2959 Seconds